سؤال بدأ يطرق بحدة المتغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية المنتظرة لمرحلة ما بعد أوكرانيا، وما سيستقر العالم عليه.
سأحاول تقديم مقاربة استنادًا الى استقراء شخصي، مبني على متابعة واستقراء موازين القوى الناشئة على الساحة الدولية عامة ومنتهياتها.
منذ بداية العشرية الأولى للألفية الثالثة بدأت الريبة تتسرب الى تفكير الولايات المتحدة بعد الفشل الذي حصدته في العراق وافغانستان ولبنان، ولاحقا في سوريا واليمن والإنسحاب المذل من افغانستان، فمنذ ان بدء بوتين يؤسس لعودة روسيا الى الساحة الدولية كدولة عظمى، رفضت الولايات المتحدة الإقرار بها، ووصفها اوباما بأنها دولة كبرى وليست عظمى، ومنذ حالة النشوء المضطرد لدول اخرى، الصين في طليعتها، وايران والهند وجنوب افريقيا والبرازيل وغيرها، كان مستوى الأدرينالين يرتفع لدى الولايات المتحدة التي بدأت تستشعر اهتزاز كرسي الأحادية القطبية تحتها.
حاولت الولايات المتحدة الزحف الدؤوب والحثيث باتجاه روسيا لمحاصرتها، وربما تمهيدا لإسقاطها، باعتبارها تمثل ضلعا رئيسيا من ضلوع المعادلة الصاعدة، ورغم ان التصنيف الاميركي كان ينظر للصين على انها العدو الرئيسي المزاحم، الا انها نظرت للقدرات العسكرية الروسية نظرة حذر انطلاقا من نظرية مفادها ان كسر روسيا يمهد الامر امام التفرغ للصين.
عملت الولايات المتحدة على احداث تغيرات جيوسياسية في اوكرانيا لتشكل الخنجر المؤلم في الخاصرة الروسية انفاذا لخطة اسقاط روسيا.
كان من المتوقع ان يحصل الإنفجار في الشرق الاوسط المقيم دائما على صفيح ساخن، سواء في ايران والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان واليمن، لكن بوتين فاجىء الجميع عندما اتخذ قرار فقأ الفقاعة الاوكرانية، نظرا لما باتت تشكله من خطورة على روسيا، وعلى منطقة الدونباس ذات الأكثرية الناطقة بالروسية.
خاض بوتين قبل ذلك حرب احترازية في جورجيا عام ٢٠٠٨، ومن ثم في اوكرانيا عقب الإنقلاب الذي نفذته الولايات المتحدة في اوكرانيا عام ٢٠١٤، واستطاعت انتاج نظام معاد لروسيا، ادى ذلك الى استعادته لجزيرة القرم، وشبه فصل لمنطقة الدونباس عن اوكرانيا، كما ذهب الى الدخول في الازمة السورية للحفاظ على الدولة الحليفة من جهة، وتوسيع المدى الحيوي لروسيا من جهة اخرى.
وبمعزل عن البروباغندا التي يقودها الغرب ضد روسيا، وبمعزل عن آثار العقوبات المفروضة عليها، والتي ظهرت آثارها على غرب اوروبا اكثر مما ظهرت على روسيا، فالخطة العسكرية في اوكرانيا تسير كما هو مخطط لها، وستبلغ نتائجها وان تأخرت قليلا بسبب خطة بوتين المصر على انتقائيتها، وعلى ان تكون جراحة موضعية دون كبير أثر على السكان، وهي خطة لا يمكن ايقافها الا بحرب عالمية لن تحصل، لانه ستدفع اوروبا الغربية المتعب اقتصادها ثمنها، اقتصادا ودمارا، بينما تؤكد اميركا والحلف الاطلسي كل يوم انهما لا يريدانها او عاجزان عن القيام بها، اولا بسبب كلفتها العالمية من جهة، وثانيا بسبب اقتصادها المتعب الذي يعاني من تضخم وديون خارجية وداخلية فاقت الناتج القومي بمراحل، بعد ان قارب اجمالها العام ٦٨ تريليون دولار، منها ٣٠ تريليون ديون حكومية.
تجلى ذكاء بوتين بعمل مماثل لما قامت به الولايات المتحدة في اربعينات القرن الماضي، من خلال اتفاقية بريتن وودز وجعل الدولار عملة التداول العالمية، بان جعل من الروبل عملة تداول عالمية ايضا، من خلال تسعير مبيعات النفط والغاز والسلع الأخرى التي يحتاجها العالم مع روسيا بالروبل، فعل كما فعل الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون الذي انقلب على اتفاقية بريتن وودز وتغطية الذهب للدولار، بأن عقد اتفاقا مع الملك فيصل بان يتم تسعير النفط بالدولار من خلال اوبك، أبقى ذلك الدولار عملة تداول عالمي بسبب حاجة العالم للنفط. بذلك يكون بوتن قد كسر ضلعا اساسيا من اضلع القوة الاميركية وهو الدولار حيث سيبيع نفطه وغازه بالروبل، ذلك الدولار الذي طالما استخدمته الولايات المتحدة كوسيلة لتأديب لخصومها.
الآن ماذا بعد أوكرانيا ؟؟
عالم جديد سينشأ، كابرات الولايات المتحدة في منع حدوثه على مدى عقد من الزمن، رفضت الإقرار به، وعملت على عدم حدوثه، وسنشهد تسوية عالمية ستطال الكرة الارضية اجمع، بعد انتصار روسيا في أوكرانيا، ستسقط الاحادية القطبية، وسيكون عالما متعدد الأقطاب، اميركا شريكة به، لكنها ليست الطرف الوحيد المقرر كما كان الامر سابقا.
إيران والولايات المتحدة ؟؟
ستصل ايران والولايات المتحدة الى تفاهم وتوقيع الإتفاق النووي، وسيجري تجاوز مسألة العقوبات على الحرس الثوري، وقد طلبت الولايات المتحدة من ايران ضمانات بخصوص تعاطي الحرس الثوري حيال اسرائيل، لكي تتمكن من اقناع اللوبيات في اميركا واسرائيل بأسباب التنازل عن العقوبات على الحرس الثوري، وساتحدث عن هذه الكيفية عندما اتطرق للموضوع الفلسطيني الذي سيكون محورا من محاور الحل.
ستنجح المفاوضات الإيرانية – السعودية وتعود العلاقات بين البلدين، والتنسيق بينهما لحل مسألة اليمن اولا، وفي عودة سوريا الى الجامعة العربية، وسيعود التنسيق السعودي – السوري في لبنان بغطاء اميركي – ايراني – روسي، وربما نرى ملائكة غازي كنعان ورستم غزالة سياسيا من جديد بتفويض دولي، بعد ان ضاق العالم ذرعا باللبنانيين، وثبت عجز اللبنانيين عن ادارة شؤونهم بأنفسهم، وبعد مؤتمر يعقد في مكان ما بغطاء دولي لحل ازمة لبنان عبر عملية تطوير الطائف وانتاج اتفاقية عمل وطني جديدة تكون متممة لإتفاقية الطائف تدخل في الدستور ويكون من نتيجتها تسوية سيكون بموجبها سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية، حتى ولو تأخرت الإنتخابات الرئاسية قليلا كما جرى سابقا.
ماذا بشأن فلسطين ؟؟
التقديرات تقول بفتح باب الهجرة لليهود الى اوكرانيا، واجراء استفتاء عبر الأمم المتحدة تحت عنوان اقامة دولة مشتركة فلسطينية – يهودية تشبه في بعض بنودها ما حصل في جنوب افريقيا، ويتم فتح باب العودة للفلسطينيين الى فلسطين، ويكون حكما مشتركا فلسطينيا – يهوديا بحسب موازين عدد السكان، وهذا سيقطع الطريق على الخطر الوجودي الذي يتهدد الإسرائيليين في فلسطين، ويريح المنطقة ويسمح لإيران بالتصرف بسلاح حزب الله، ولن استفيض اكثر من ذلك.
العالم مقبل على اعادة رسم معالم عالم جديد لا يشبه اتفاقية مالطا، لكن الارجحية ستكون للشرق هذه المرة بعد ان سيطر الغرب على العالم لأكثر من مائتي عام.