لماذا لم تستثمر الشعوب العربية في ما سمي بربيعها لتحقيق وثبتها نحو تأسيس نماذج لدولة القانون والمؤسسات ، لماذا يظهر دائما من يركب الموجة ويحتوي انتفاضات الشعوب ويعيد بسط سيطرته من جديد عليها لإحباط فرصها ، فيما تخفق الشعوب حتى تنتفض ثم تستكين ثانية وتصمت وتبتعد وتغادر ساحات الاحتجاج محبطة مستسلمة؟
اين هي الطبقة المثقفة وما هو مكونها أصلا ؟ من هؤلاء الذين ننتظر أن يشكلوا النخبة التي تحمل الشموع لتنير الدروب في الليالي الحالكة ،وتخرج ابناء الشعب الى طرف النفق الآخر؟
لماذا لا تتوفر في الجزائر الآن معارضة حقيقية تستطيع ان تؤمّن -على الأقل- الفترة الانتقالية ، وتأخذ مقاليد الحكم في ظروف بهذا السوء ،و تستطيع ان تحقق شيئا من الاجماع الوطني حولها ؟ لماذا نحن شعب بعد انتفاضته السلمية الجميلة يجد نفسه بين المطرقة والسندان بين حكم متجبر متسلط أُزيح عنه اللثام و حكم عسكري متهم هو الاخر بنفس تهم اسلافه ،و لا مفر منه أو هكذا يبدو الأمر، أين اخفقنا نحن المواطنون ؟ هل كان ينبغي ان نلعب دورا ما ؟
انك لا تستطيع أن تضع العربة أمام الحصان هكذا يقول المثل الفرنسي ، ولا نستطيع أن نستعجل موسم القطاف ونحن لم نزرع ، نحن لم نبن الانسان فينا باعتباره اولى اللبنات التي يمكن اعتمادها في أي مشروع حضاري ، ولم نبن مؤسسات لدولتنا و لنكون منصفين فلنقل أنه لم تتح لنا الفرص لإنجاز ذلك ، وربما تكمن مسؤولياتنا في كوننا تركنا أنفسنا رهائن لأنظمة فاسدة دجنتنا مطولا ،وحان وقت صحوتنا واستيقظنا بفعل أجهزة الوخز التي سخرتها عهدات بوتفليقة اللامنتهية لإسكات انفعالاتنا ،و لكن هيهات كان لها مفعول عكسي ،فلا يزال هناك فينا في وعينا الجمعي المتوزع على كل المواطنين والمتواري دبيب حياة مستتر ، حين استيقظنا من غفوتنا لم نجد من حولنا شيئا سوى الخراب .. خراب مشوه.
عندما كنا نَقبل أن نقف في الطوابير الطويلة للحصول على المواد الرئيسية لإسكات الجوع ، وسد الرمق ، لم نكن ننهل فقط من مواطنتنا ، بل و حتى من رصيد الانسان فينا ، عندما كنا نقف في الطوابير بالساعات من اجل الحصول على اجورنا من المراكز البريدية والبنكية ، ونقف بالطوابير حتى للحصول على البنزين لقيادة سياراتنا ،لم نسأل حينها أنفسنا عن الذي كان يحدث عن قصد لقتل كل شيء فينا و تنمية الارتكاسات الأولية ،وتحويلنا الى كائنات تغلب عليها غريزة البقاء لتضمن الاستمرار في الحياة كحيوانات مشوشة مهكرة الادمغة ،و مسلوبة الارادة و غير معنية بما يدور في كواليس السلطة البوتفليقية و أصبح لا يعني لنا الكثير أن نرى بوتفليقة و اسرته – التي حولت الجزائر الى ملكية خاصة -و هو يطل علينا بكرسيه المتحرك ، مع افراد اسرته يرتدون بدلاتهم الراقية الأنيقة و يحيطون به في مشاهد تذكر بأفلام المافيا الإيطالية ،مشاهد ولا اي نصوص دستورية او قانونية كانت لتسمح بها في اي دولة تحترم المواطن.
نقل لنا – في عدوى انفعالية عصبية – عجزه و اعاقته ،كنا حينها نياما نخشى الاقبال على الاحتجاج لأنهم خلقوا لنا في وعينا الباطن بعبعا بنوه و كبروه ،اسمه الارهاب و كل متحدث بالسوء عن بوتفليقة كان سيستدرك ليقول اننا و لله الحمد ننعم بالأمان بعد العشرية الدموية بفضل رجل السلم و السلام و الوئام الوطني الذي بني على اختلالات سسيونفسية من الصعب ان يتعافى منها المواطن على المديين المتوسط والبعيد ،والتي تشبه في آلياتها غير المدروسة سياساته الاقتصادية القائمة على إلغاء فكرة الثواب والعقاب بتبنيه قرارات منح الشباب اموالا للاستثمار بطرق غير محسوبة العواقب ،أقل ما يمكن ان يقال عنها أنها تؤدي لاختلال في منظومات القيم المتعارف عليها ،فأصبح الشباب يتساءلون عن الهدف من مواصلة الدراسة اذا كان بوتفليقة و قوانينه تتيح لهم فرص انجاز المستقبل المأمول وفق رؤاهم القاصرة بطرق سريعة ومختصرة.
و لا أحد كان يميط اللثام عن الحقائق الاقتصادية المرعبة التي كانت تتتخبط فيها البلاد و لا تزال بتبنيها سياسات الارتجال و الاعتماد طوال اربع عهدات رئاسية على اقتصاد الريع و الانبطاح للقوى الاستعمارية ، لا أحد استطاع أن يدق ناقوس الخطر الا القليل الذين حاولوا و بسبب ذلك أبعدوا من الطريق الأعوج الذي اعتمدته السياسات المنتهجة.
و تفرق المثقفون ما بين هؤلاء الذين كانوا يدقون ناقوس الخطر فيبعدون وانتهوا بانسحابهم الكلي بسبب القنوط من سوداوية المشهد ووعيهم بضرورة ان التغيير لا يأتي بشكل عشوائي بين ليلة و ضحاها ،وما بين أولئك الذين لا يملكون من الأحلام و الطموحات سوى تلك المتعلقة بعوالمهم الصغيرة بمنطق (تخطي راسي و تفوت) ، و بين المثقف الانتهازي الذي لا يزال يراوح المكان جيئة و ذهابا ما بين المناصب الى أن يلفظه المكان بالإحالة الى التقاعد.
وأدى انسحاب المثقف من الساحة الى ظهور كائنات جديدة لا تمت للثقافة بصلة و لكنها تسابق بعضها البعض لولوج عالم الثقافة المغري و تسارع من أجل الانتماء الى دوائر مبدعي السلطة والمبجلين لها ، وتسارع لاحتلال المكان المتاح من قبل المؤسسات الثقافية التي تبحث لها عن مشروعية الاستمرار كركائز تبريرية لنظام فاسد.
لا التاريخ و لا المنظومة السياسة سمحا بظهور معارضة قوية استطاعت ان تستقطب الشعب وتقنعه بطرح بديل ولا تزال السلطة اليوم تستثمر في أخر خراطيشها وتستمر بسياسات الترهيب وقمع الحريات في محاولات يائسة لاشراط بافلوفي أخير لوقف الحراك الذي لا محالة سيجهز عليها لأن الغول النائم قد استيقظ ولابد ان يستعيد المجتمع استقراره مجددا بحسب قانون الحياة الطبيعي ولكن الاكيد أن البنيات التحتية عندما تهتز و بعنف فلن تعود ابدا الى صورتها أو ترتيبها الأول.
للإشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا