يقف العالم اليوم على مفترق مصيري لدروب وعرة سيلها جارف ومدمر ومياهها العذباء مذاقها العلقم , فبات عليه ومرغما اليوم قبل الغد ومن أجل الظفر بالنجاة بأن يطور ويعدل الرأسمالية الحالية , وهذه مسألة دقيقة جدا وحساسة لأن العطل ليس في الرأسمالية بل في الرأسماليين وفي تطبيقها المشوه والمتفلت , فتوسيع مجال وساحة تداول الدولار كان يؤدي فعلا الى نمو الناتج المحلي الاجمالي فكيف جرى ذلك ؟
حيث طبعت أميركا المزيد من العملة وضاعفوا مجال تداول الدولار ونجم عن ذلك دولارات ورقية اضافية , وعندما كانوا يتقاسمون هذه الاضافة كات حصة رجال المال هي الأكبر دائما والتي تبلغ اليوم النسبة الكاملة 100% واقعيا , ومهما وظفت الحكومة من الأموال في الاقتصاد فان هذه الأموال في مرحلة ما تجد طريقها الى رجال المال وهذا يعني من أنه لم يعد من معنى من زيادة الكتلة النقدية لأن زيادة اصدار العملة لا ضرورة لها ,الا بغية انقاذ المصارف من الافلاس فقط , حيث يتجه العالم في هذه الفترة لمزيد من الخلافات السياسية مع المصارف ونحن لا شك نشهدها , اذ ان الاقتصاد الذي يشغل فيه قطاع المصارف ( الوساطة ) 50% من كل القطاعات الأخرى لا يمكنه ان يبقى على قيد الوجود , ويعتبر ركوده أمرا واقعا بشكل محقق بسبب الآليات التي ضمنت توسيع الاقتصاد بهذه الطريقة , فبات لزاما علينا اليوم قبل الغد القيام بواجبنا لجهة تقويم هذا الركود ان لم يكون قد فات الأوان , لذلك اريد ان أشير هنا بان ضبط النظام المصرفي في العالم واعادة تنظيمه أمر ممكن ولا مناص منه .
ففي كل الأحوال هنالك مؤشر حقيقي لانخفاض الاقتصاد لمعدل الضعف واذا عدنا في التاريخ فنجد ان الاقتصاد الأوروبي والأميركي هبطا في فترة الكساد الكبير حوالي 35% والاقتصاد الروسي هبط أيضا ما نسبته 35% بعد العام 1991 , أما الآن فهناك مؤشرات حازمة وحاسمة بأن الاقتصاد الأوروبي سوف ينخفض الضعفين وبعد ذلك فمن غير المعروف ما الذي سيحدث , سيصار الى دمج المصارف وتخيفض عددها المادي ووضع حد لهذا الانفلاش أي أنه من بين 10 مصارف كبرى اليوم وفي أي بلد في العالم لن يبقى سوى 25 % اي الربع, سيعمد الى خفض عدد المصارف والمؤسسات البنكية بحوالي 75 % والابقاء على25% فقط تلك القادرة على زيادة الرسملة والتطبيق الاجرائي بالشروط الجديدة , ومن الطبيعي ان يكون هذا السيناريو غير مناسب للمصرفيين لأنه يهدد نفوذهم ويجبرهم على التخلي عن جزء مهم من وزناتهم وقيمتهم والتي ستتدنى بشدة .
فعلى فترة امتداد الأزمات السابقة كانت طريقة الحل والمكافحة تتم بتوسيع السوق بوسائل مختلفة , أما اليوم فبات من المتعذر توسيع السوق لأن العالم بأكمله يشكل نظاما واحدا وسوقا واحدة بحد ذاته , لذلك لا بديل ولا مناص من عملية التجديد لهذا السوق من بوابة تعديل وتطوير النظام الاقتصادي الحالي وهذا الأمر يشتمل على عدة أوجه من التفكك والتطوير والتحصين ورسم تقاطعات جديدة لوضع حد للنزاع العالمي الدائر , والذي اذا لم يصار الى تداركه سوف يتجه العالم مرغما وغير مدرك الى مشهدية من الاشتباك العالمي , والتي سوف تفتح الطريق نحو الحرب وأي حرب سوف تقع ؟ وبالطبع ليس المقصود هنا الحرب الكلاسيكية انما الحرب من أجل أو باسم الاصلاحات بل وبشكل دقيق حرب الاصلاحات واعادة الترتيب والتهجين والتنصيب , فهنالك نزاع فيما بين الحكومات والمصارف المركزية محوره في أن المصارف المركزية حول العالم تريد حماية النقد والحكومات تريد تحصين ماليتها وحماية اقتصادها , والمشروعان غير متناغمان كثيرا فهو ذلك الصراع بين
النخب المالية وبعض كوادر الدولة الكلاسيكية وخصوصا في التعارض بين المصالح القومية الوطنية ومصلحة النقد والنظام العالمي , حيث يكمن جوهر الصراع في تغليب المصلحة القومية للدول على مصلحة النظام المالي العالمي العليا .
سوف ينقسم العالم الى أقاليم اقتصادية لأنه من المتعذر ومن غير المقبول أن يبقى العالم بلا ادارة , لذلك من الضروري هنا الابتكار لوجود مراكز قطبية رديفة لقوى اقليمية وذلك بالتحديد ما قد بدأ يترجم وبشكل عملي, فنحن وبشكل صريح في عصر تفتت وانتهاء القطبية الوحيدة والبدء بعصر جديد هو عصر القطبيات التشاركية , ومرد الحكم ومرجعيته فيها هو لمجلس الاقطاب العالمي .
حيث لم تعد الموارد موجودة ومتوافرة كما كانت من قبل فالندرة في ازدياد , ولا وجود لنظام اقتصادي بديل وحتى في أنه لا توجد مدارس اقتصادية ابتكارية , والفارق المفروض لحل هذه الأزمة هو بالفعل مختلف في أنه لم يتم عن طريق الحروب بل عن طريق الاصلاحات لأن حتى الحروب الكلاسيكية لم تعد تجد نفعا فضلا عن أن معيار المصلحة لهذه الحروب متدنية جدا اضافة أن الجميع فاقدا لهذه القدرة , حيث الأزمة المتنوعة ( المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبنيوية والصحية …) ملتهبة ومستعرة ولم ترحم أحدا أبدا .
فالكارثة الاقتصادية الشاملة ستقع لجهة انخفاض مستوى الحياة وخاصة في بلدان المليار الذهبي , والذي بدون أدنى شك سيكون أشد وقعا في انحاء العالم وعندها سينقسم العالم بالفعل الى مناطق اقتصادية اقليمية من جراء هذا الانقسام الحاد, ومن ثم سيطرأ علينا مناخ تنافسي اقليمي بين المناطق الاقتصادية الاقليمية والمناطقية ,وهو وضع شديد الكركبة وفترة زمنية شاحبة فاقدة كليا لأدنى مؤشرات النمو الاقتصادي .
لذلك سوف يكون لزاما في تلك المرحلة الانصراف لوضع نماذج اقتصادية جديدة وسيكون ذلك بالمرحلة الأولى عملا نظري بحت , باعتبارها مرحلة العصف الذهني الصرف مع البحث المعمق للاحتماليات النظرية والعملية للنماذج للوصول للحل الأمثل واتباعه , أما معيار العلاقات والقوة بين مختلف المناطق الاقليمية سوف يكون الذهب والمعادن الثمينة المتصفة بالندرة والمتميزة بالرغبة الامتلاكية والتي تشكل الملاذ الآمن والضامن والعابرة للزمن في مرحلة الشك وعدم اليقين .
حيث أن النظام الرأسمالي الحالي والكلاسيكي في خطر بسبب التفننات المشوهة والتي صبغت تطبيقه لذلك فالخطورة سوف ترتفع ان لم يتم تطويره أو تعديله وتلوينه وغمسه بالمؤشرات التشاركية والاجتماعية التشابكية باعتبار الانسان الأولوية والهدف وبأنه ليس مجرد المادة والسلعة والرقم فقط , حيث ان الرأسمالية الحاضرة لا تتسق مع أو بكل ما تعرفه عن دوافع سلوكيات العقل البشري .
سوف تجبر الظروف الفئات البشرية والمتصفة بالمرونة على تحمل القساوة والتكيف بالتالي مع درجات العالية من حرارة الاقتصاد والتي تنبئ بالتطرف بالسنوات القادمة , فالثراء ليس صدفة عل الدوام فهو جائزة لأي مجتهد أو حتى لأي محظوظ جاد في تقديم التضحية , تلك التضحية اللصيقة والشخصية والتي ان نجحت لا بد من أن تترجم الى كتلة من الانتاجية الهائلة للمال .
بعد الحرب العالمية الأولى والثانية أصبح هناك أغنياء من العامة لأنهم استفادوا من الوضع واستغلوا الأزمة والتي مثلت لهم فرصة ذهبية , أما الآن وحيث العالم لن يعود كما كان من قبل مرة أخرى , فهنالك تزايد في مستوى عدم اليقين وارتفاع لمعيارية القلق بشأن العالم, فالفوضى الجماعية والازمات التي ضربت في التاريخ والتي كانت موجودة في العالم الى حد قريب وحتى التي نعاصرها سوف تتكرر وستكون على نفس المنوال , وهذا ليس بصدفة مطلقا ولا حتى لتوارد محض للخواطر , ولا حتى اقرارا لمقولة ان التاريخ يعيد نفسه وانما تكريسا لاشكالية ان البشر يكرروا نتاج اخطائهم البشرية تمام كالميراث .
فالسؤال والذي نطرحه للوهلة الأولى هو : كم من الوقت سيستمرهذا الوضع ؟ والخوف كله والتخوف أيضا من أن تكون الاجابة ( لفترة طويلة ) , حتى بالنسبة للأفراد والذين يملكون بعض الحسابات والأرقام اللابأس بها في البنوك , بعد تجاوز الاحتياطات النقدية هناك ( 4% او 5% ) من نسبة المودعين سيحصلون على رسالة من المحتمل أن يكون مفادها ( بأن هذا الأمر والواقع لن ينتهي في المستقبل القريب أي بأنه لن يزول ب ( أيام أو أسابيع أو حتى أشهر وسنة ) , لذلك فان أهم شئ يمكننا الحصول عليه الآن ليس الأمن الوظيفي , بل العمل الهادف , فالعمل الهادف والنوعي أو المشروع الابتكاري المتوازن هو الذي سينقذنا في أوقاتنا العصيبة .
فاذا كنا قلقين بشأن عملنا أو وظيفتنا فعلينا أن تعلل ونفهم ذلك حقا ونستنبط ما هو قادم وآت , بأنه مثلا لا يمكننا دفع المستحقات ولا حتى الايجار , ولا يمكننا اطعام أطفالنا ولا رعايتهم وهذا هو المأزق المحوري , لكن سؤالنا الحقيقي والحثيث والذي يدور في خاطرنا دائما في أننا ولماذا نفتقد الى الثقافة المالية ؟ أي وبشكل صريح أكثر ( لماذا ليس لدينا منهاج تعليم مالي في المدارس ؟ ) , فجيل الألفية الثالثة هو أكثر جيل متضرر من الديون وتربى على أن يكون متلق فقط فهو جيل استهلاكي محض , فلنتطلع أيضا الى ما جهدنا به من أجل الأطفال وأجيالنا القادمة وعن ماهية الثقافة والتعليم المالي الحالي والتي تضع برامجه ومناهجه مدارسنا وطبعا النسبة المئوية معدمة , هل كل ذلك صدفة ؟
وهل يعقل أن مدارسنا بنيت من أجل أن تخرج عمال مهجنين ومدجنين فقط ؟ وجامعاتنا في الأساس مبرمجة لتصدر لنا أعداد كبيرة سنويا من العاطلين عن العمل , هي الفكرة في الأساس لأن نكون عمال ومجرد موظفين مبرمجين فالعمال يعملون بحسب قوانين العمل وينفذون فقط ما يطلب منهم القيام به لأن هدفهم ليس العمل الهادف بالذات وانما يتركز بالأصل بكيفية جني الأموال وتحسين ماهية رواتبهم ولنيل الرضى من أرباب عملهم من أجل استمراريتهم في مكانهم الوظيفي , فالجدير توضيحه هنا بأن هذا الواقع هو ليس بخطأ ولا يجب أن يعمم كذلك على الجميع, فكلا الطرفين مؤثرين وضروريين لكي يكتمل الهيكل , لكن عندما يحدث ويتكرر مثل الأمر بشكل متطرف وبتواتر في عاصرنا الحاضر يصبح لدينا بالتالي النسق الواضح والمفهوم المكتمل عن الذي سوف يحدث من الافراد وعن مدى جهلهم وانعدامية فهمهم لحقيقة المال .
فـ الاشتراكية ليست بالمطلق لخدمة العامة والفئات الكادة فهي وانما وجدت للاغنياء فقط في حقيقة الأمر وأصله , والرأسمالية كذلك لم تبتكر بالتمام من أجل الطبقات الوسطى والفقيرة , أعمدة الدولة المؤسساتية والأفراد والمجتمعات والذين يعملون بجد للمال ولصالحه ,فاذا كنت على سبيل المثال مالكا لمطعما صغيرا ومصمم على أن تطرد الكوادر التشغيلية منه , فانت بالحقيقة لا تختلف عنهم والآن في هذا الوقت , لانك عندما تقوم بطرد موظفيك يصبح مطعمك خال من مواردك البشرية وبالتالي ليس هنالك أي امكانية للعمل ولتقديم اي خدمة فبالتالي سوف يقفل هذا المطعم وبالتالي فمصيرك هنا هو نفسه مصير موظفيك , نحن مرتبكون بشدة وفي متاهة لا متناهية أمام أمور بالفعل لا متوقعة.
اقرأ أيضاً:
أين تقف رأسمالية المساهمين اليوم؟
جوزف ستيغلتز: الانتفاضات عبر العالم سببها فشل سياسات الرأسمالية
البابا فرنسيس: الرأسمالية تتسبب في تجويع العالم. ماذا يقول الرأسماليون؟