الوارثون في زمن الذكاء الاصطناعي: قراءة تأويلية فلسفية في أفق العدالة والنجاة | بقلم م. صلاح زغيب
يشهد العالم المعاصر تحولاً جذريًا في أنماط العمل والمعيشة نتيجة تسارع تطورات الذكاء الاصطناعي. بات من المتوقع أن العديد من الوظائف التقليدية، خصوصًا الياقات البيضاء منها، ستندثر أو تُعاد صياغتها، مما يدفعنا للتساؤل: من سيبقى؟ ومن سيرث الأرض فعليًا؟ يستعرض هذا المقال قراءة فلسفية وتأويلية في ضوء الآية القرآنية: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" (القصص: 5)، مع تحليل اجتماعي–اقتصادي حول مصير المزارعين والعاملين بالأرض في مستقبل تحكمه الخوارزميات. نُعزّز الطرح بإشارات من الفكر الديني، وعلم الاجتماع، والتأويل الصوفي، ونربطه بوقائع معاصرة من عالم الزراعة. ذلك القرآن الذي ما زال يتحفنا بصلاحيته لهذا الزمان والاستخلاف في الأرض لا يبدو أنه عملية مفاجئة تهبط من السماء ولكنها عملية تدرجية نحن من نقوم بها.

مقدمة
شهدنا في العقدين الأخيرين تقدّمًا هائلًا في قدرات الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت المنصات الرقمية تؤدي مهامًا كانت يومًا حكرًا على البشر: من كتابة النصوص، إلى التشخيص الطبي، إلى البرمجة. ورغم الإيجابيات، فقد أدى هذا التحول إلى قلق واسع النطاق بشأن مصير ملايين العاملين، خاصة في المهن المعرفية.
لكن وسط هذه التحولات، تبرز مهنة الزراعة — لاسيما الزراعة التقليدية — كمجال لا يزال عصيًا على الأتمتة الكاملة. فالمزارع لا يتعامل فقط مع بيانات، بل مع مواسم، وأرواح، وطقوس، وحدس متجذر في علاقة روحية مع الأرض.
الذكاء الاصطناعي: أداة أم تهديد؟
الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف القيمة الاقتصادية والاجتماعية. وقد بدأت بعض القطاعات في الاستغناء عن موظفين لصالح أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر دقة وأقل تكلفة. مع ذلك، فإن الزراعة لا تزال مجالًا يحتاج إلى لمسة بشرية، لأن المحاصيل لا تنمو فقط بالتحليل، بل بالتفاعل مع بيئة معقدة لا يمكن التنبؤ بها كليًا.
لكن يجب أن نُنصف الذكاء الاصطناعي أيضًا؛ فهناك مشاريع تدعمه في خدمة الزراعة، مثل نظم الري الذكية، وتحليل التربة، والتنبؤ بالطقس. غير أن هذه الأدوات ما زالت تكمّل الإنسان ولا تستبدله. الوراثة هنا لا تعني الإلغاء، بل المشاركة العادلة.
الوارثون: قراءة في ضوء النص القرآني
الآية الكريمة التي جاءت في سورة القصص لا تتحدث فقط عن انتصار المستضعفين تاريخيًا، بل تفتح أفقًا تأويليًا لفكرة العدالة العميقة. الوراثة هنا لا تعني فقط امتلاك الأرض، بل امتلاك القدرة على رعايتها وحمايتها والبقاء من خلالها.
إذا أسقطنا هذا التأويل على عالم اليوم، فإن المزارعين، والعمال اليدويين، وسكان الريف المهمّشين، يصبحون الورثة المحتملين في لحظة فقدان التوازن بين الإنسان والتقنية. وليس هذا إسقاطًا شاعريًا، بل استنتاج واقعي يستند إلى هشاشة الأنظمة التقنية أمام الكوارث الطبيعية، والاختراقات الإلكترونية، والتغير المناخي.
المزارع كحامل للمعرفة والمعنى
في التراث الإسلامي، كما في الفلسفة الإيكولوجية الحديثة، يُنظر إلى الفلاح ككائن كوني، يعرف متى تزرع الأرض، ومتى تُترك لترتاح، ويقرأ العلامات في الطقس، والنبات، وحتى في سلوك الطيور. هذه المعرفة لا تُدوّن في قواعد بيانات، بل تُنقل بالرؤية والممارسة.
وقد كتب المفكر الصوفي محيي الدين بن عربي عن الإنسان الكامل باعتباره من “يعرِف مراتب الأشياء”. والمزارع، إن فهم ذاته ودوره، قد يكون أقرب من يمثل هذا النموذج في زمن تقني يتجاهل المعنى.
نماذج معاصرة داعمة
في جنوب لبنان، كما في مناطق الأهوار في العراق كما في العالم القديم، لا تزال الزراعة تُمارس بمعرفة فطرية تقاوم الانقراض. دراسات مثل تقرير FAO on Agroecology (2018) تُظهر أن الزراعة المجتمعية والعضوية تُحقق أمنًا غذائيًا ومرونة بيئية تتفوق على النظم الصناعية الكبرى.
كما أن باحثين أمثال Vandana Shiva وJames C. Scott دعوا لإعادة الاعتبار للفلاح كحارس للسيادة الغذائية في وجه العولمة التقنية.
خاتمة: من سيرث الأرض؟
ليس السؤال عن الوراثة مجرد تأمل ديني أو أخلاقي، بل قضية استراتيجية للبقاء. في عالم تزداد فيه هشاشة النظم المعقدة، سيكون الناجون هم من يعرفون كيف يزرعون، لا فقط كيف يبرمجون.
الوارث الحقيقي ليس من يملك أدوات التشفير، بل من يملك البذور والمعرفة والحكمة. فالأرض لا تورث بالشراء أو التحكم، بل بالصلة. وتلك الصلة — بين الإنسان والتراب — هي سر العدالة التي لا يفهمها الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من التعقيد.
وهكذا، فإننا لا نكتب هذا المقال كتأمل رومانسي، بل كمرافعة فلسفية واجتماعية: لنعيد الاعتبار لمن حافظوا على الحياة، بصمت، وبحكمة، وبأمل.
المراجع:
القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 5
FAO (2018). The 10 Elements of Agroecology.
Vandana Shiva (2008). Soil Not Oil: Environmental Justice in an Age of Climate Crisis.
James C. Scott (1998). Seeing Like a State: How Certain Schemes to Improve Human Condition Have Failed.
ابن عربي، الفتوحات المكية