رَكَّزَت غالبية المناقشات في العام الفائت على ويلات الحرب، وهذا أمرٌ مفهومٌ وصحيح. فالحربُ والعنفُ يحظيان بالاهتمام بسبب صورهما المؤلمة والقاسية وقدرتهما على إحداثِ دمارٍ فوري. في الواقع، الحروبُ مُنتشرة جدًا وبشكلٍ كبير في العالم في الوقت الراهن، لدرجةِ أنَّ الحربَ الدائرة في شرق الكونغو، التي تُوصَف بأنها واحدة من أكثر النزاعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية، لم يتم تناولها بشكلٍ كافٍ وغابت عن الأخبار في العام 2023.
لكنَّ حدوثَ المجاعة وانعدام الأمن الغذائي في العالم يُمثّل مشاكل لا تقل أهمية في الوقت الحالي. بالفعل كان العام 2023 عام المجاعة وانتشار الجوع. وقد وصف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة العام 2023 بأنه عامٌ قياسي لانعدام الأمن الغذائي العالمي، والذي يحدث عندما يكون الإنسان غير مُتأكّد من كيفية حصوله على وجبته التالية. ومع التركيز على الحرب في العام الماضي، فمن السهل للغاية التغاضي عن تزايد المجاعة وانعدام الأمن الغذائي.
ولكي نكون واضحين، فقد استحوذت المجاعات على الاهتمام هذا العام، ولكن فقط عندما اقترنت بالحرب، كما حدث عندما أدى الصراع بين إسرائيل وحركة “حماس” إلى زيادة احتمالات انتشار المجاعة على نطاق واسع في غزة. والواقع أنَّ الحربَ والمجاعة ترتبطان غالبًا، حيث من الممكن أن تتغذّى كلٌّ منهما على الأخرى لخلق حلقة مُفرغة يصعب كسرها.
لكن من الأهمية بمكان أن يُدرِكَ المجتمع الدولي خطر المجاعة وانتشار الجوع خارج البلدان التي مزّقتها الحروب. ويتجلّى هذا بوضوح في لبنان الذي تفاقم الفقر فيه إلى حدٍّ هائل ليطال 74 في المئة من السكان، حسب لجنة الامم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا)، كما يبرزُ في “الممر الجاف” في أميركا الوسطى، والذي يُعاني من فشل المحاصيل، وهو ما يساهم في تفاقم الاضطرابات السياسية. ويُعَدُّ انخفاضُ إنتاج الغذاء الناجم عن الجفاف من بين الأسباب الجذرية لزيادة الهجرة من نيكاراغوا وهندوراس وغواتيمالا إلى الولايات المتحدة. في حين أنَّ الكثير من النقاش السياسي في أميركا بشأن “أزمة الحدود” يُرَكّزُ على تدفّقِ المخدّرات غير المشروعة، فإنَّ السببَ الحقيقي وراء الأعداد الهائلة من الأشخاص الذين يسعون للدخول واللجوء إلى الولايات المتحدة على الحدود الجنوبية هو أنهم يفرّون من بلدانهم الأصلية هربًا من العنف، والقمع، والبحث عن مأوى، وقبل كل شيء، عن الطعام.
وتضرب المجاعة أيضًا القرن الأفريقي. ورُغمَ أنَّ السودان مُتَوَرِّطٌ حاليًا في حرب أهلية، وإثيوبيا على حافةِ صراعٍ آخر، فإنَّ الحربَ وحدها ليست التفسيرَ الوحيد لظروفِ المجاعة البعيدة المدى التي تمتد عبر المنطقة، من الصومال إلى كينيا. إنَّ الجفافَ والتدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي تتحمّل المسؤولية أيضًا عن ذلك.
من المؤسف أنه على الرُغمِ من اليأس الذي وصلَ إليه الوضع بالنسبة إلى الكثيرين في القرن الأفريقي، فإنَّ هذه المنطقة لا تواجه أزمة انعدام الأمن الغذائي الأكثر حدة على مستوى العالم، فهذا التمييز المُخزي يخصُّ جنوب آسيا. على سبيل المثال، تُعاني باكستان من أزمةِ جوعٍ خطيرة ناتجة عن “مزيجٍ سام” من الصراعِ وتغيّر المناخ والآثار الاقتصادية اللاحقة لاضطرابات سلسلة التوريد الناجمة عن جائحة “كوفيد-19″، وفقًا لمنظمة “Welthungerhilfe” الألمانية غير الحكومية. ولا يزال الوضع رهيبًا على نحوٍ مُماثل بالنسبة إلى الكثيرين في أفغانستان، كما يواجه سكان نيبال زيادات هائلة في أسعار المواد الغذائية، ما يُعرِّضُ قطاعات كبيرة من السكان لخطر المجاعة وسوء التغذية. وفي تايلاند، صاحبت الاضطرابات السياسية موجات جفاف قياسية هذا العام، ما وضع الكثيرين هناك في أزمة غذائية.
في حين يصفُ برنامج الأغذية العالمي أزمة الغذاء العالمية الحالية بأنها “الأكبر في التاريخ الحديث”، لا يبدو أنَّ الوضعَ يحتلُّ مرتبةً عالية في الأجندة السياسية لعام 2024. ويبدو المناخ السياسي العالمي غير مُلائم لمُعالجة الجوع بقدر ما هو الحال بالنسبة إلى معالجة المشاكل الناتجة عن تغيّر مناخ الأرض.
إن المجاعةَ وانتشارَ الجوع هما في كثير من النواحي النتيجة النهائية لفشل القوى العالمية في التعاون. وهما إلى حدٍّ كبير نتاجُ الحرب، التي تنتج عن صراع القوى العظمى، وتغيّر المناخ، الذي يجعل التنافسُ بين القوى العظمى حلَّ مشاكله أكثر صعوبة. وإذا كانت القوى الكبرى مُشَتَّتة للغاية بحيث لا تتمكّن من الاستجابة لكلِّ أزمةٍ أمنية، فإنها أيضًا مُرهَقة جدًا بحيث لا يُمكِنها معالجة حالات المجاعة المتعددة في جميع أنحاء العالم. ولاحظت سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، في تشرين الأول (أكتوبر) كيف أنَّ تضافُرَ الأزمات العالمية يؤثّرُ سلبًا، ليس فقط في المحتاجين، بل أيضًا في أولئك الذين يمكنهم الاستجابة بشكلٍ أفضل. وأعربت عن أسفها ل”أننا نعيشُ الآن في عالمٍ سَئمَ نوعًا ما من كلِّ هذا. هناكَ شعورٌ كبير بالضيق الآن داخل البلدان بشأن المساعدات والعطاءات الخارجية”.
ويواجه برنامج الأغذية العالمي نفسه نقصًا هائلًا في التمويل، وهو الأكبر في تاريخه المُمتد 60 عامًا. لقد انخفضت تبرّعات المساعدات الغذائية للأمم المتحدة، حيث بلغت التبرعات النقدية من الدول الأعضاء نصف مستوياتها في العامين 2021 و2022، على الرُغم من أن دوافعَ الحاجة إلى المزيد من المساعدات –انقطاع الإمدادات الناجم عن الوباء والحرب في أوكرانيا– لم تتبدّد بعد.
إنَّ الديناميكيات التي تدفع إلى تراجع مساعدات المانحين تبدو أكثر وضوحًا في الولايات المتحدة. وفي حين تمَّ إيلاءُ قَدرٍ كبير من الاهتمام لاحتمالات قيام الكونغرس الأميركي بقطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا، فإن المساعدات الغذائية الدولية الأميركية تظل أيضًا على طاولة التخفيض والتلاعب في الكونغرس. وهذا ليس مُفاجئًا، حيث أنَّ مجلسَ النواب الذي يُسيطِرُ عليه الجمهوريون استهدفَ أيضًا برامج المساعدات الغذائية المحلية بتخفيضها. وإذا لم يكن الجوعُ في الداخل أولوية، فإنَّ المساعدات للخارج، نظرًا للاتجاه الانعزالي في السياسة الخارجية الأميركية، لن تحظى بفرصةٍ كبيرة. من المُسَلَّمِ به أنَّ ليس كلُّ التخفيضات في المساعدات الغذائية ترجع إلى نزاعاتٍ بشأن الموازنة الفيدرالية. على سبيل المثال، تم تعليق المساعدات المُقَدَّمة لإثيوبيا مؤقتًا في أوائل هذا العام من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بسبب المخاوف بشأن الفساد الحكومي. لكن مثل هذه المخاوف غالبًا ما تكون بمثابة عُذرٍ مناسب، وليس السبب القاطع، لقطع المساعدات.
عندما كتب وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس شليزنجر في العام 1993 عن التحديات التي تُواجِهُ العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة، أكّدَ أنَّ “المجاعة مُستمرّة في السودان”. ومن المؤسف أنه بإمكانه أن يكتبَ السطرَ عينه اليوم، وربما مرة أخرى في العام المقبل. إنَّ عَجزَ البشرية عن حلِّ مشكلة الحاجة إلى الغذاء ليس بالأمر الجديد. كان العام 2023 صعبًا من نواحٍ عديدة، ليس أقلّها أنه أظهرَ كيفَ تظلُّ المجاعة وانتشار الجوع من السمات المستمرة للحالة الإنسانية، ويبدو أن العام 2024 لن يكونَ أفضل على هذا الصعيد، إن لم يكن أسوأ.