خدعة مؤسسات التصنيف الكبرى.. هكذا تعمل المافيا وراء الكواليس
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
طالما حذر خبراء الاقتصاد مما يعرف بـ”لعبة التصنيف” أو التقييم، حيث تعتبر وكالات التصنيف الائتماني بمثابة نوع من أدوات الحرب الاقتصادية. وتجدر الإشارة هنا بالطبع إلى أشهر وكالات التصنيف العالمية وهي :
Standard & Poor’s (S&P)و Moody’s, و Fitch Ratings
والتي يعمل كل منها كملحق لوزارة الخارجية الأمريكية وذلك من خلال تعمد استهداف أعداء العم سام بتخفيضات ائتمانية استراتيجية تصب في الأخير في مصلحة واشنطن العليا.
ويمكن النظر إلى وكالات التصنيف باعتبارها أحد أذرع القوة الاقتصادية التي يتم التغاضي عنها في كثير من الأحوال، ناهيك عن تأثيرها الجيوسياسي. فهم يملكون القدرة على إطلاق دفعات كبيرة من السندات المدعومة بالرهن العقاري لتشكل فرصة استثمارية كبرى بتصنيف AAA ، الأمر الذي قد يؤدي إلى حزمة من المشكلات المتعلقة بالانفجار السكاني وإحداث حالة من الفوضى في الاقتصاد بوجه عام، أو ربما تخفيض الائتمان الخاص بخزانة أجنبية ممن تشتمل عليهم قائمة الاغتيالات الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية، مما يعوق قدرتها على زيادة الأموال لديها.
ولعل الشواهد تكاد تجمع على حقيقة مفاداها؛ أنه بالرغم من خطورة تلك الوكالات- التي من المفترض بها أن تكون مستقلة- إلا أنه يتم رعايتها بصورة أساسية من قبل بعض الساسة والقادة في واشنطن، الأمر الذي يفسر كيفية مارسة السلطة السياسية والاقتصادية من قبل المافيا المصرفية العالمية.
وقد تحدثت كاثرين أوستن فيتس، رئيسة شركة سولاري، عن المحاولات السابقة من قبل وكالات التصنيف للتدخل بخفض الائتمان الخاص بالحكومة الفيدرالية الامريكية، والعواقب الوخيمة الناتجة عن ذلك. حيث قالت إنه في عام 2011 حيث كان الاقتصاد الأمريكي في مراحله الأولى من التعافي من أزمة البطالة والاستفاقة من أزمة إفلاس شركة Lehman. Brothers الشهيرة، كان الشغل الشاغل للصحافة الاقتصادية آنذاك هو الحديث عن سقف الديون وخطر التخلف عن السداد.
وفي الخامس من أغسطس 2011 حدث ما لا يمكن توقعه أبدا، فقد قامت وكالة ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف الائتماني الخاص بوزارة الخزانة الأمريكية، و كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تعمد فيها إحدى الوكالات إلى خفض التصنيف الائتماني السيادي طويل الأجل للولايات المتحدة الأمريكية من تصنيفها الممتاز AAA إلى AA + الذي كان دائمًا أقل من التصنيف المثالي.
وفي بيان لها، قدمت وكالة التصنيف الشهيرة تبريرا منطقياً بشأن قرارها، جاء فيه:
“لقد قمنا بتخفيض تصنيفنا طويل الأجل على الولايات المتحدة، لأننا نعتقد أن هناك حالة من الجدل المطول حول مسألة رفع سقف الدين الحكومي والسياسات المالية المرتبطة بها، والتي قد تؤدي بدورها إلى المزيد من النمو على المدى القريب في حجم الإنفاق العام وخاصة بالنسبة للاستحقاقات، كما رأينا أن السعي نحو اتفاقية تستهدف زيادة الإيرادات يبدو أقل ترجيحا مما افترضنا في السابق ، كما نعتقد أن خطة التوحيد المالي التي وافق عليها الكونغرس والإدارة الأمريكية هذا الأسبوع تقل عن المبلغ الذي نعتقد أنه ضروري لاستقرار عبء الدين العام للحكومة بحلول منتصف العقد”.
وقد أحدث هذا القرار ضجة كبرى في أوساط المهتمين بعالم الائتمان والتمويل، فقد صاح الكثيرون آنذاك قائلين: من ذا الذي يجرؤ على التشكيك في وعود العم سام!
وغني عن القول أن رد وزارة الخزانة الأمريكية جاء في التو واللحظة، حيث عمدت إلى اثبات “خطأ بقيمة 2 تريليون دولار” في حسابات تخفيض التصنيف الائتماني لشركة ستاندرد آند بورز. تبين أن هذا “الخطأ” هو نتيجة تباين بين توقعين لمكتب الميزانية بالكونجرس ، أحدهما يتوقع أن الإنفاق الحكومي التقديري سيتتبع نمو الناتج المحلي الإجمالي ، ويتوقع آخر أن يتوسع مع تضخم المستهلك.
ولكن رغم ذلك لم تتراجع S&P عن قرارها، بل إن جون تشامبرز رئيس لجنة التصنيفات السيادية بالشركة أصر على موقفه قائلا بأن مهمته هي كشف الحقائق ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
وجاءت عواقب القرار بعد 18 يوم فقط من إصداره حيث أعلن تشامبرز عن استقالته من منصبه، ليحل محله أحد المسئوليين التنفيذين التابعين لـ سيتي بانك Citibank، وهنا كان لابد من إجبار S&P على دفع الثمن.
وفي وقت لاحق، قامت وزارة العدل الأمريكية بالتحقيق في واقعة S&P واتهامها بالقيام بتصنيف العديد من السندات المالية المدعومة بالرهن العقاري، والذي كان أحد أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008
وفي فبراير 2013 قامت وزارة العدل والمحامون العموم عن عدد من الولايات الأمريكية برفع دعوى قضائية بقيمة 5 مليارات دولار ضد S&P والشركة الأم التابعة لها McGraw-Hill ، وبناءً على النتائج التي توصل إليها التحقيق ، تم تسوية القضية بعد عامين بمبلغ 1.375 مليار دولار.
وبالرغم من أن وكالات التصنيف الأخرى لم تسهم في واقعة تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، إلا أنها أيضا تسببت بصورة أو بأخرى في الأزمة المالية العالمية. ولعل الدعوى القضائية المقامة ضد S&P آنذاك كانت بمثابة إنذار كي لا تتجرأ أية وكالة تصنيف على ارتكاب الخطأ ذاته في المستقبل.
والجدير بالذكر أن أياً من وكالتي Moody’s and Fitch Ratings لم تتأثر، فقد دفعت S&P الثمن وحدها وذلك على الرغم من تأكيد التقارير الحكومية على تورط الوكالات الثلاث في وقوع الأزمة المالية العالمية. ولعل ذلك قد يثير تساؤلا بديهيا: لماذا حدث ذلك؟ والإجابة تبدو واضحة للعيان، فهذا هو أسلوب المافيا المصرفية، (إذا لم تكن معنا فإنت إذن ضدنا). وقد أشارت التقارير لاحقا إلى أن قرار التخفيض الصادر عن S&P كان رمزيا أكثر من كونه وظيفيا.
وتتمثل خطورة خفض الأداة المالية الأساسية للاقتصاد العالمي فيما تحمله من تداعيات مالية، فقد يؤدي خفض التصنيف الائتماني إلى دفع المستثمرين نحو المطالبة بأسعار فائدة أعلى من الحكومة الفيدرالية والمقترضين الآخرين، ما يرفع التكاليف والأعباء على الحكومات المحلية والشركات ومشتري المنازل. ولكن عدد من المحللين قد أشاروا في ذلك الوقت إلى أن آثار التخفيض لكن تبدو شديدة إلى هذا الحد مدللين على ذلك بامتناع وكالات التصنيف الأخرى عن خفض التصنيف الائتماني الحكومي آنذاك.
وحتى يومنا هذا ، لازال تصنيف ستاندرد آند بورز للدين الحكومي الاميركي على مستوى AA + ولا تواجه وزارة الخزانة أي صعوبة في إجراء معاملاتها التقليدية. ولكن هذا ليس مربط الفرس، فالحقيقة تتجلى بوضوح، وهي أن القوانين الخاصة بالتنظيمات العصابية الكبرى لا تسمح لأحد بالوقوف في وجهها وإلا فإنه سيتم سحقه. وهذا ما حدث مع S&P عندما حاولت قول الحقيقة.
رابط المقال اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا