إقتصادالملف العربي الصينيدولي

سبعون الصين: إقتصادُ الإنسان في مواجهة إقتصاد الواحد في المئة

للإشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

في صيف العام ١٩٧١ حقّق هنري كيسنجر ضربته الديبلوماسية الكبرى. لقد استغلّ وزير خارجية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون زيارته الى باكستان اليسارية (في ذلك الوقت) وطلب منها التوسّط لدى بكين لزيارة بلاد ماوتسي تونغ.

مهّدت تلك الزيارة للفتح الكبير في الديبلوماسية في القرن العشرين: زيارة نيكسون للبرّ الرئيس (ماين لاند) وخيانة “تايوان” (جرياً على عادة الكاوبوي) التي كانت الولايات المتحدة تعترف بها حصراً كجمهورية الصيّن.

وعلى الرغم من اعتباره المؤسس والأب الروحي لانهيار الإتحاد السوفياتي، فإن لا نصر واضحاً للعيان في تاريخ كيسنجر أكبر من عبقريته في صياغة تلك العلاقة التي كانت غالبية الخبراء تعتبرها مستحيلة التحقيق في ذلك الزمان.

كنا على بعد سنواتٍ من صعود رونالد ريغان في أقصى الغرب، ومارغريت تاتشر في وسط العالم، وتثبيت النظرة الجديدة لدور بكين مع دينغ زياو بينغ في الشرق. كانت جمهورية الصين الشعبية تتحضّر لإطلاق أطروحتها المختلفة تماماً عن الأطروحة السوفياتية الجامدة، والمختلفة أيضاً عن النظرة الأميركية المُشبَعة بالسيطرة الأحادية والتحكّم بمصير العالم.

من جهتها كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى الصين لتأمين خروج مُشرّف من الجحيم الفيتنامي ولعزل خصمها التاريخي الإتحاد السوفياتي. وقد لاحظ كيسنجر أن الصين تزخر بالعمالة الشابة مُنخفضة الأجر التي يُمكن ان يؤدّب من خلالها العمال المُدَلّلين في الغرب.

مع صعود زياو بينغ وريغان وتاتشر كان عقد المصلحة العالمية المشتركة قد اكتملت حلقاته: رأسماليّان يمينيّان حتى العظم يبحثان عن حلٍّ لأزمة مُستعصية طالما حكمت العالم الرأسمالي تُدعى مدّ عمر الدورات الإقتصادية، يقابلهما زعيمٌ شيوعي يأتي من ثقافة الماندارين التي اعتادت حساب الأيام بمئات السنين.

إثنان يُريدان الإنتاج الرخيص، وثالثٌ يريد فرصة تاريخية لشعب جبّار. إثنان يُريدان تعظيم الربح وثالثٌ يريد تعظيم أمةٍ يُحسَب تاريخها بسنين العرق.

يحكم التاريخ اليوم بين نظامين إقتصاديين ونظامين إجتماعيين. إنتهت إمتيازات العمال في الغرب مع سقوط اليسار العالمي بعد إنهيارالإتحاد السوفياتي، وتم تثبيت نظام فئة الواحد في المئة التي تتحكّم بمقدرات العالم الرأسمالي، وتوقّف الغرب (والولايات المتحدة بالتحديد) عن تشكيل نموذجٍ يُمكن لشعوب العالم الإقتداء به. أكَل كل الناس في كل مكان خلطة “ماكدونالد” و”كينغ بيرغر” و”كنتاكي فرايد تشيكن” وشربوا معها “الكوكا كولا” و”البيبسي كولا”، وانتهى عندها الحلم الأميركي الذي أوقف الناس بالطوابير في الصقيع لتذوّقها.

إنتهت إنسانية الغرب بالإختزال الى حق الطبابة مع “أوباما كير” التي انقلب عليها خلفه. ثلث الشعب الأميركي مُصنَّف عند خط الفقر، و٧٠٪ من الأميركيبن إذا لم يعملوا اليوم لا يستطيعون الأكل غداً. لقد احتكرت شركات الواحد في المئة سوق الأسهم والسندات التي طالما تغنّى بها الغرب بصفتها أيقونة الرأسمالية الشعبية في مواجهة ديكتاتورية الفقر الشيوعية.

بالمقابل بأي أفق بنت الصين شراكتها مع الغرب؟ إنتشال ٨٠٠ مليون صيني من الفقر والجوع (إقرآ الرقم جيداً)؛ رفع نصيب الفرد من الدخل الصيني ١٢٠ مرّة في أقل من ٦٠ عاماً (ضعفان كل سنة في المتوسط)؛ مضاعفة متوسط عمر الصينيين خلال الفترة نفسها (من ٤٠ الى ٨٠ عاماً)؛ وبحلول العام ٢٠٢٢ سيتراوح دخل الفرد في الصين سنوياً بين ٩ الاف و٣٤ الف دولار اميركي. لقد إستطاع الزعيم الصيني الحالي جي شينبنغ المحافظة على معدّل نمو في الناتج المحلي الإجمالي الصيني لا يقل عن ٦٪ (فيما يُهلّل الرئيس الأميركي لنسبة نمو ٣٪ لا نعرف كم تستمرّ في ظل توقعات الازمة العالمية المقبلة)، وهذا يُمثّل نجاح أول نموذج عالمي على مستوى أمّة يقطنها ٢٠٪ من سكان العالم للشركات المملوكة للدولة والشركات المملوكة للعمّال.

دعونا من سيطرة الشركات الصينية على عرين الإحتكارات الاميركية المتمثّل بقائمة “فورتشن ٥٠٠”، وسيطرتها على قائمة أكبر خمسة بنوك في العالم. دعونا من تكنولوجيا المعلومات والروبوتيكس وتكنولوجيا سكك الحديد والسيارات الكهربائية وروبوتيك الطب، وكلها تعمل في ظل السبق الصيني بالجيل الخامس لشبكات الإتصال، دعونا منها جميعاً لأن الإنسان هو الأساس.

هنا يكمن الفارق العظيم: إقتصادٌ من أجل الإنسان في مواجهة إقتصاد فئة الواحد في المئة. هذا هو المعنى الحقيقي لثورة تمت بتضحيات هائلة قبل سبعين عاماً واستمرت بتضحيات أكبر.

يوم أنهى الرئيس الأميركي نيكسون زيارته التاريخية للصين قال: “هذا الأسبوع هو الذي سيُغيّر العالم، حيث أن ما قلناه في هذا البيان ليس بأهمية ما سنفعله في السنوات المقبلة لبناء جسرٍ عِبر 16,000 ميل و22 عاماً من الأعمال العدائية التي قسّمتنا في الماضي. وما قلناه اليوم هو أننا سنبني هذا الجسر”.

جسر نيكسون وكيسنجر يحاول كسره اليوم الرئيس دونالد ترامب، والعولمة التي أسّستها زيارة الصين في اول سبعينات القرن الفائت ينقلب عليها ساكن البيت الأبيض راهناً. ربما لا يحب الرئيس الاميركي ان يتخيّل انه سيقف، هو او أي خلف له، حيث وقف سلفهم ولكن في زمنٍ لم تعد الصين فيه تُصدّر القشّ حصراً.

نشر اولا” في مجلة أسواق العرب اللندنية

للإشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى