اجتماعالاحدث

أَراغون و”إِلْسَا”: الحُب الخالد (1 من 3) | بقلم هنري زغيب

في طبيعة دار النشر أَنْ تسهرَ على المؤَلِّفين لديها فتُخرِجَ مؤَلَّفاتهم بالحلَّة الأَنضر، وتُعيد طباعتها سهَرًا على رواجها المتواصل. وهذا ما تقوم به دوريًّا “دار غاليمار”، إِحدى أَعرق دور النشر الفرنسية (تأَسَّست في باريس سنة 1911)، وهي تَنشر لكبار أَعلام الأَدب الفرنسي، شعرِه والنثر.

 

في الذكرى الأَربعين لغياب الشاعر لويس أَراغون (1897-1982)، و”غاليمار” ناشرةُ معظم مؤَلفاته، أَصدرَت الأُسبوع الماضي (10 الجاري) طبعةً جديدة لثلاثٍ من مجموعاته الشعرية، لفْتًا إِلى هذه المناسبة.

فماذا عنه وعنها؟

سأَعرض ذلك في ثلاثيةٍ عنه، هنا الجزءُ الأَول منها.

 

هــــــــــــــو …

اسمه الأَصلي لويس أَندريو Andrieux. وُلِد في نويي سورسين (Neuilly-sur-Seine) مساءَ 3 تشرين الأَول/أكتوبر 1897، وبرع في دروسه الثانوية ميَّالًا إِلى الأَدب. وبدأَ بدراسة الطب وكان زميله فيها الشاعر أَندريه بروتون (1896-1966) وستكون له معه لاحقًا مسيرة أَدبية طويلة.

بدأَ مسيرته الأَدبية سنة 1922 حين هجر الطب وأَسس مع بروتون وفيليب سوپو Soupault (1897-1990) مجلة “أَدب” السوريالية سنة 1919، فكانت منارة الطليعة الأَدبية في فرنسا. بعد سنتين (1921) أَصدر مع بروتون “مانيسفت السوريالية”. وطيلة العشرينات كان نتاجه الأَدبي ضمن هذا السياق الطليعي، خصوصًا بمجموعاته الشعرية، أَبرزها فترتئذٍ “نار الفرح” (1920) و”الحركة المتواصلة” (1926) بما جاء فيهما من أُسلوب جديد ومنحى مغاير أَسَّس للسوريالية ما سُمِّيَ “الكتابة الآلية”، كما ظهرت واضحةً في مجموعته الشعرية “فلَّاح باريس” (1926) بإِطلالة شعرية حدَّدت لاحقًا مسيرةَ السوريالية.

أَراغون الشاعر العاشق

أَيام النضال

سنة 1927 انضمَّ إِلى الحزب الشيوعي الفرنسي آملًا أَن يخلق فيه حركة ثورية عبر التيار السوريالي. سوى أَنه، منذ عرف الكاتبة الروسية الأَصل إِلْسَا تْرِيُوليه (1896-1970)، تغيَّر نمط حياته فأَدرك استحالة الجمع بين الشيوعية والسوريالية. وكان هذا الإِدراك سبب انفصاله عن بروتون.

سنة 1933 بدأَ يحرر في جريدة “لومانيتيه” (تأَسست سنة 1904)، وبعد أَربع سنوات تعيَّن رئيس تحرير الصحيفة الشيوعية “Ce Soir” (تأَسست سنة 1937) وبقي في هذه المسؤُولية حتى 1939. ثم ساهم فعليًّا في تأْسيس منظمات الجبهة الشعبية ضد النازية، بينها “منظمة الأُدباء والفنانين الثوريين” و”المؤْتمر الدولي للدفاع عن الثقافة ضد الفاشية”.

تطوَّرت كتابته فانتقل من السوريالية إِلى الواقعية الاشتراكية، في سياق منطق ثقافي اتَّخذ له ما كان بدأَه في العشرينات من وفاء للنُظُم والأُصول في الشعر، دون ابتعاده عما سمَّاه “الكتابة الآلية”.

… وجاءت إِلْسَا

منذ 1940 كان انخراطه في المقاومة الفرنسية منعطفًا مهمًّا في مسيرته الأَدبية ترسَّخ فيه التزامه بالشكل الشعري الأُصولي الغنائي الذي أَتاح له أَن يجمع فيه تعبيره عن حبِّه إِلْسَا وحبِّه وطنَه. وظهر ذاك الحب الكبير في مجموعاته الغزلية: “نشيد إِلى إِلْسَا” (1942)، “عَينَا إِلْسَا” (1942) و”الديانا الفرنسية” (1945).

وأَخذ أَراغون يواصل إِصدار وَلَعه بِـإِلْسَا في مجموعاته: “إِلْسَا” (1959)، “مجنون إِلْسَا” (1963)، “الأُسبوع المقدَّس” (1958)، وسواها. وكانت فاجعته الكبرى وفاة إِلْسَا في 16 حزيران/يونيو سنة 1970، قبْله باثني عشر عامًا (توفي في 24 كانون الأَول/ديسمبر 1982).

إِلْسَا يوم الْتَقَت أَراغون (1928)

إِلْسَا الحب الكبير

اسمُها الأَصلي إِيلَّا يـوريــيــفْــنا كاغان. كاتبة ومقاومة فرنسية روسية الأَصل. ولدَت في موسكو (12 أَيلول/سبتمبر 1896)، وعاشت متنقلة بين روسيا وأُوروبا. سنة 1911 ربطتْها قصة حب في موسكو مع الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي (1903-1930) لكنها لم تَدُم. سنة 1917 التقَت الضابط الفرنسي أَندريه تْرِيُوليه لدى السفارة الفرنسية في موسكو فعاشا حبًّا تَوَّجَهُ زواجُهما سنة 1918 وانتقلت معه إِلى باريس، لكنها انفصلَت عنه سنة 1921 بدون طلاق. سنة 1928 تعرفَت بلويس أَراغون في مقهى “لا كوبول” وانعقَدت بينهما قصة حب كبير دام 42 سنة حتى آخر حياتها. عملَت أَولًا (1929-1930) في محل لصوغ المجوهرات وظلت تراسل الصحف الروسية من باريس، وتترجم إِلى الروسية رواياتٍ وقصائدَ فرنسية، كما ترجمَت من الروسية إِلى الفرنسية نتاج أُدباء روس بينهم ماياكوفسكي وتشيكوف. وسنة 1937 تمكنَت من إِنجاز أَول رواية لها بالفرنسية “بونجور تريز” (صدرَت سنة 1938).  

 

شريكة الأَدب والنضال

سنة 1939 تزوَّجت من لويس أَراغون، وكانت شريكته في المقاومة الفرنسية ضد النازية، حتى إِذا اضطُرَّا إِلى الاختفاء بسبب الملاحقة السياسية، أَصدرَت سنة 1943 روايتها “عاشقا أَفينيون” باسم مستعار: “لوران دانيال” (وهو عن قصة لوران ودانييلَّا كازانوفا)، ونالت لأَجلها جائزة غونكور سنة 1945 فكانت أَول امرأَة تنال هذه الجائزة منذ تأْسيسها سنة 1892.

سافرت مع أَراغون إِلى عدد من البلدان. وسنة 1963 كان لها الإِسهام الأَكبر في ترجمة كتاب “يوم في حياة إِيفان دينيسُّوفيتش” ونشْره في فرنسا، وهو للكاتب الروسي أَلكسندر سولجينيتسين (1918-2008)، كان صدر في موسكو قبْلها بعام واحد فأَحدثَ وقعًا صاعقًا لأَنه كشف عن التعذيب داخل معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفياتي.

سنة 1966 أَنجزت المخرجة الفرنسية البلجيكية الأَصل آنياس فاردا (1928-2019) فيلمًا وثائقيًّا ممتازًا بعنوان “إِلْسَا الوردة” عن قصة الحب الكبير بين إِلْسَا وشاعرها أَراغون.

العاشقان معًا طوال العمر…

وسكت العندليب

مطلع سنة 1970 أَصدرت روايتها الأَخيرة “العندليب يَصمُت عند الفجر”، وفعلًا صمتَت عامئذٍ في 16 حزيران/يونيو إِثر نوبة قلبية عنيفة. كان في البيت روزنامة يومية ينتزع منها أَراغون ورقةً كل يوم. ونهار وفاة إِلْسَا أَوقف أَراغون نزع الأَوراق يوميًّا، كي يظلَّ هذا النهار أَمامه فلا يعدَّ الأَيام بعد وفاة حبيبته. وأَوصى في مأْتمها أَن يقام فراغ في ضريحها كي يُدفنَ هو فيه إِلى جانبها، وهو ما حصل فعلًا يوم وفاته في 24 كانون الأَول/ديسمبر سنة 1982.

على الضريح اليوم منقوشة هذه العبارة من إِلْسَا: “حين نُمَدَّدُ يومًا جنبًا إِلى جنب بلا حياةٍ، ستجمعُنا معًا مؤَلفاتُنا إِلى مستقبل كان حلمُنا أَن نعيشه معًا”.

…ومعًا حتى في الضريح

ما هي مجموعات أَراغون الشعرية الثلاث التي أَعادت منشورات غاليمار إِصدارها الأُسبوع الماضي في الذكرى الأَربعين لغيابه؟ وما حضور إِلْسَا فيها؟

هذا ما سأَعرضه في الجزء الثاني من هذه الثلاثية عن أَراغون.

ينشر المقال بالتزامن مع “النهار”

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى