أكتب إليك وقد مرّت أكثر خمس سنوات على وفاتك.
سماحة المطران الغالي …
لا تظنّ أنني أخطأتُ في التسمية، فعادةً يُقال: سماحة الشيخ وسيادة المطران. إلا أنهم كانوا ينادونك في فلسطين “سماحة المطران” ليكون واضحاً لدى الكل أنك لستَ لفئةٍ معيّنة دون أخرى، كما جرت العادة بتقسيم الناس إلى فئاتٍ ومذاهب وملل ونِحل.
أعرف وطنيتك، ولا أظن أن أحداً يستطيع الكلام بغير ذلك، ولكني أرى من الواجب أن أكتب بعض التفاصيل والخصوصيات الصغيرة عنك، ليطّلع الكثيرون ويعرفوا كيف تُفكّر وكيف كنتَ تتغلّب على منفاك الذي كنتَ تُصرّ على استخدم كلمة منفى.
أتَذْكُر سيدنا، عندما كنتَ تستعدّ للعودة إلى روما، حيث مقرك الإجباري، قُلتَ لي: ” ياولدي إنني الآن وأنا أغادر حلب أحزن كالطفل الصغير عندما يكون في فترة الفرصة بالمدرسة، يلعب مع أترابه فيُقرع الجرس للدخول إلى الصف منهياً هذه الفترة القصيرة. هكذا لا تعتقد أن ذاك الطفل ليس في داخلي”.
وفي مرة أخرى وقبل ليلة واحدة من سفرك قلتَ لي: “أعلموني أنه يوجد فرن يصنع الخبز الأسمر الجيد، وأريد خمس ربطات من هذا الخبز” في البدءِ اعتقدتكَ تبالغ بالعددِ فالوزن الإجمالي هو نحو عشرة كيلوغرامات، وهو يشكل وزناً على المسافر بالطائرة، وقلتُ في نفسي إنه لوحده سيستغني عن نقل هذا الوزن عندما سيقوم بتجهيز أمتعة للسفر، وقمتُ بتأمين المطلوب، ونَقْل الخبز إلى منزلك “وهو منزل أهلك”، وعندما دخلتُ عليك وقلتُ لك ماجال في خاطري، أجبتني وأنت – كعادتك – تضع يدكَ على خَصركَ: “في الغربة عندما يقتلني الحنين إلى سورية، أضع طاولة طعام، يكون فيها الخبز من بلدي، إضافة إلى الجبنة والزعتر، وألبس دشداشة عربية ومشلحاً، وأحياناً أقوم بتقسيم قرص واحد من “اللحم بعجين” إلى قسمين لكي أحافظ على تمويني من بلدي … إنني هكذا أحتالُ على غُربتي ومنفاي، وبهذه الطريقة أشمّ رائحة الوطن من خلال هذه الطاولة الصغيرة، حتى آتي إلي سورية مرة أخرى وأقابل الأحبة.
كم نحن بحاجةٍ إلى المزيد من الأشخاص مثلك يتنفسون الوطن شهيقاً وزفيراً، ويتابعون كل القرارات وكل المؤتمرات المتعلقة بهذا الوطن والقضية الفلسطينية، ويُحللون ويُناقشون ويُنددون ويَعقدون المؤتمرات ويشاركون فيها.
إن شخصاً مثلك لن تُنسيه ألف إسرائيل وطنه وهموم وطنه، ولن تجعله عاجزاً عن تحديد الأقنية لإيصال المساعدات إلى فلسطين، ولا إيجاد الأصدقاء الذين يساعدونه على ذلك، وإن سنوات السجن منحته تصميماً ما بعده تصميم على مقاومة الظلم الذي يقع في فلسطين.
أتذْكرُ سماحتكَ مأدبة الإفطار التي أقامتها الطوائف المسيحية في رمضان بحلب خلال وجودك آنذاك؟ حيث توجه مفتي حلب حينها الشيخ أحمد حسون بكلامه لكَ قائلاً: إنه لابد أن يأتي اليوم الذي نجعلك يا سماحة المطران تحمل منبر الأقصى من حلب مرة ثانية لتعود به إلى القدس، كما جلبه سابقاً صلاح الدين الأيوبي منها.
أما قلت لكم إنه سماحة المطران كبوجي .
وأخيراً يا سيدنا أُحب أن أطمئنك أنك ما زلت حياً في قلوبنا وفي سجلات النفوس السورية أيضاً، لأنهم يعلمون أن مثلك لا يموت.
رحمك الله سيدنا المطران هيلاريون كبوجي
اللهم اشهد إني قد بلغت.