إن كل عصر من العصور يخضع لأسلوب خاص من الحياة ونمط معين من السلوك كما يتميز بسيادة بعض التيارات العقلية و وجود اتجاهات عقائدية أو فلسفية أو مذهبية؛ فالأيدولوجيا هي “محرك الجماعات” وهي كذلك ما يرسخ في أذهان الناس من فلسفات ومذاهب وعقائد، تلك التي تخلق بين جموع الناس تيارا شعوريا واحد او حسب فهم “اميل دوركايم” (الضمير الجمعي) بمعنى أن الأيديولوجيات على العموم ؛ هي مواجهة السلوك الذي يدفع الناس دفعاً، فهي كل ما يواجه الرأي العام ويؤثر على مخيال الناس ومداركهم وأذواقهم، وأهمها (الدين) باعتباره أهم العوامل الأيديولوجية والثورية التي أحدثت طوال العصور تغيرات جذرية وحاسمة.
وحتى نتتبع الخيط الناظم لمصدر الأيديولوجيا وأصلها وجب التجوال في سماء الفكر الفرنسي وخاصة في مقدمات “كوندياك” وإسهامات “باسكال” وجرعات “روسو”… كما ينبغي أيضا ان نشاهد وأن نتابع ونسجل كيف هاجرت تلك المقدمات الفرنسية إلى ألمانيا حيث اختمرت ونضجت في باطن الفلسفة الألمانية فتمخض العقل الألماني الخصب عن صدور فلسفات “كانط” و “هيغل”، تلك التي تبعتها دراسات “ماركس” و “كارل مانهايم”، والإيدولوجيا كمقولة إجتماعية هي محاولة ربط الفكر بالواقع ووصل العقل بالحياة ودمج المنطق بالوجود الإجتماعي لتصل إلى ما يسميه “اندريه لاموش” سوسيولوجيا العقل.
أما علماء الإجتماع فينظرون إلى الأيديولوجيات على أنها وقائع وجب دراسة ماضيها ونشأتها وتطورها ثم محاولة تقنين القوانين التي تتحكم في مسارها، على اعتبار أن الأيديولوجيات هي ظواهر خاضعة للشروط الإجتماعية بمعنى أنها مشروطة اجتماعياً، وبالإضافة إلى ذلك فإن تلك الأيديولوجيات إنما تتباين وتتصارع حين تتداخل في البناءات والتنظيمات فتؤدي إلى صراع بين الأفكار حين تعتبر الأفكار كأسلحة وتنظر إليها من خلال إلتحامها الإيديولوجي إلا أنها تقوم في نفس الوقت ببعض الوظائف الاجتماعية، وإذا كان الفكر الألماني يمتاز بالصورية والصرامة والتجريد، فإن الفكر الفرنسي يتصف بالخصوبة والسخاء. وبين ألمانيا وفرنسا حارت كلمة الأيديولوجيا كنتاج لفلسفة “كوندياك” تماما كما صدرت كلمة سوسيولوجيا لمنتج الفلسفة الوضعية “أوغست كونت” ومن ناحية الأصل التاريخي واللغوي تعني كلمة أيديولوجيا : (علم دراسة الأفكار)، إلا أنها كانت تستخدم في البداية للدلالة على كل فلسفة من الفلسفات المضادة فيزيقيا، تلك التي كانت تفسر صدور الأفكار باشتقاقها عن الحس. و “كوندياك” هو أشهر فيلسوف فرنسي يعبر عن الإتجاه الحسي كأصدق تعبير، إذ تربى ما بين أحضان الفكر الإنجليزي التجريبي حيث أكدت المدرسة الإنجليزية ذلك المبدأ التجريبي القديم القائل: (لا شيء في العقل ما لم يكن من قبل الحس) وما يعنينا من كل هذا أن كلمة أيديولوجيا من الكلمات الفرنسية المصدر حيث إستقرت هناك في مهدها قبل أن تكتسي الأصل الألماني بهجرتها وإنتقالها إلى كتابات “كانط” و “هيغل” وهنا طرأ عليها الكثير من التغيير بحيث استخدمت كي تشير إلى عدد متكامل من الأفكار والمعتقدات أو مجموع السمات والاتجاهات السائدة “جماعة أو طبقة” .