في الذكرى السنويّة لاختطاف الإمام السيّد موسى الصدر، يقف لبنان والعالم العربيّ أمام شخصيّة فريدة حفرت إسمها بعمق في ذاكرة الأمّة. لم يكن الإمام الصدر مجرّد زعيم دينيّ أو شخصيّة سياسيّة عابرة، بل كان رمزاً للتجديد والإصلاح الاجتماعيّ والدينيّ، وقائداً ناضل بلا كلل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. كان الإمام نموذجاً للمثقّف الذي لم يكتفِ بالتنظير، بل نزل إلى الميدان ليعيش مع الناس همومهم ويُشاركهم آمالهم وآلامهم.
وُلِد السيّد موسى الصدر من عائلة علميّة عريقة في منطقة جبل عامل، التي كانت ولا تزال قلباً نابضاً للعلم والدين في لبنان. ومنذ نعومة أظافره، أظهر شغفاً بالمعرفة، فغاص في بحور العلم الدينيّ في حوزة قم، حيث درس الفقه والأصول، إلى جانب دراسته للحقوق في جامعة طهران. هذا الجمع بين العلوم الدينيّة والقانونيّة منح الإمام الصدر فهماً عميقاً للواقع الاجتماعيّ والسياسيّ، وجعله قادراً على تقديم رؤية متكاملة لإصلاح المجتمع.
آمن الإمام الصدر بأنّ “الطوائف نعمة والطائفيّة نقمة”، وكان هذا الشعار عنواناً لمشروعه الوطنيّ. لقد أدرك أنّ التنوّع الدينيّ في لبنان يمكن أن يكون مصدر قوّة، إذا ما تمّ توظيفه بشكل صحيح في خدمة الوحدة الوطنيّة. ولذلك، كان الإمام من أشدّ الداعين إلى نبذ الطائفيّة التي رأى فيها خطراً يُهدّد بنية الوطن. وكان يسعى دائماً إلى تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطياف اللبنانيّة، مؤمناً بأنّ الوحدة الوطنيّة هي السياج الحقيقيّ الذي يحمي لبنان من الأخطار الخارجيّة، وخاصة من العدو الإسرائيليّ.
لم يكن الإمام الصدر بعيداً عن الميدان العسكريّ. ففي السادس من تموز عام 1975، أعلن عن ولادة أفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل) كاستجابة لنداءات وطنٍ جريحٍ مضرّجٍ بالدماء، يئنّ تحت وطأة الإعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة. كانت هذه الخطوة ترجمة عمليّة لفكر الإمام الصدر، الذي لم يرَ في المقاومة مجرّد خيار، بل واجباً وطنيّاً ودينيّاً للدفاع عن الأرض والعرض. وكانت أفواج المقاومة اللبنانيّة بقيادة الإمام بمثابة حجر الأساس للمقاومة التي تصدّت للإحتلال الإسرائيليّ وساهمت في تحرير الجنوب اللبنانيّ.
على الصعيد الاجتماعيّ، لم يكن الإمام الصدر مجرّد قائد مقاومة، بل كان أيضاً رجل عمل اجتماعيّ بامتياز. فقد أسّس العديد من المؤسّسات التي تُعنى برعاية الأيتام والمحرومين، مثل مبرّة الإمام الخوئي، وعمل على تطوير جمعيّة البر والإحسان. كما أسّس مراكز صحيّة ومدارس لتأمين التعليم والرعاية الصحيّة لأبناء الوطن، ليكون عمله الاجتماعيّ امتداداً لرسالته الدينيّة والإنسانيّة.
عندما اندلعت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، لم يقف الإمام الصدر مكتوف الأيدي. بل انطلق في جولات دبلوماسيّة شملت مصر والسعودية والكويت وسوريا، سعياً منه لتحقيق تضامن عربيّ يضع حدّاً لهذه الحرب المدمّرة. وقد أثمرت جهوده بعقد مؤتمر الرياض في 16 تشرين الأول 1976، الذي كان خطوة مهمّة نحو إنهاء الحرب. إلّا أنّ الإمام الصدر لم يتوقّف عند هذا الحد، بل واصل جهوده لتحقيق المصالحة الوطنيّة، إيمانًا منه بأنّ لبنان لن ينهض إلّا بتكاتف جميع أبنائه وبتعزيز الوحدة الوطنيّة التي لطالما دعا إليها.
في 31 آب 1978، إختفى الإمام موسى الصدر في ليبيا في ظروف غامضة لم تُكشف تفاصيلها حتى اليوم. كان هذا الإختفاء صدمة كبيرة للبنان وللعالم العربيّ، فقد خسر الوطن قائداً وطنيّاً كان يُمكن أن يلعب دوراً محوريّاً في إنهاء الحرب الأهليّة لو كان حاضراً. ومع ذلك، فإنّ غياب جسد الإمام الصدر لم يُطفئ شعلة أفكاره ورؤاه التي ما زالت حيّة في قلوب محبّيه وأتباعه.
كان الإمام موسى الصدر حالة فريدة من نوعها، فقد جمع بين الفكر والعمل، بين الدين والسياسة، وبين المقاومة والعمل الاجتماعيّ. كان يؤمن بأنّ المقاومة ليست فقط مقاومة عسكريّة، بل هي أيضاً مقاومة فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة. وكان يرى أنّ تحرير فلسطين والقدس هو واجب شرعيّ وأخلاقيّ، ولطالما ردّد “إنّ السند الحقيقيّ للثورة الفلسطينيّة هو عمامتي ومحرابي ومنبري”. ولم يكن هذا مجرّد شعار، بل كان يُعبّر عن إيمان عميق بضرورة الدفاع عن المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في فلسطين.
لقد أطلق الإمام الصدر في العام 1973 صرخته الشهيرة: “إن لم تدافعوا عن لبنان سندافع عنه، وإن لم تقاتلوا في سبيله سنقاتل، ولا نريد ولا نقبل أن تحتل إسرائيل أرضنا وبعد ذلك نؤسّس المقاومة ونمنع الإحتلال”. وكانت هذه الصرخة بداية لرحلة التحرير التي قادتها أفواج المقاومة اللبنانيّة، والتي أثمرت في النهاية بتحقيق الإنتصارات على إسرائيل، لا سيّما في العام 1985 عندما تمّ تحرير مناطق واسعة من الجنوب اللبنانيّ.
في ذكرى اختطاف الإمام موسى الصدر، أتذكّر قائداً لم يكن يخاف إلّا من الله، وكان مستعدّاً دائماً للتضحية في سبيل وطنه وأمّته. أتذكر رجلاً عاش لأجل الآخرين، وسعى لبناء مجتمع متسامح وعادل، يحترم التنوع الدينيّ والثقافيّ. ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على اختفائه، إلّا أنّ أفكاره ومبادئه لا تزال تُشكّل نبراساً للشعب في مسيرته نحو تحقيق الوحدة الوطنيّة وتعزيز المقاومة ضد العدو الإسرائيليّ.
وفي هذه الذكرى الأليمة، أتوجّه بتحيّة إجلال وتقدير إلى دولة الرئيس نبيه بري، الأمين على وصيّة الإمام الصدر، الذي لا يزال يحمل راية الدفاع عن لبنان وقضيّته العادلة. وأؤكّد على ضرورة متابعة قضيّة اختطاف الإمام بالتعاون مع الجهات الدوليّة، حتى تتحقّق العدالة ويعود الحق لأصحابه. إنّ قضيّة الإمام موسى الصدر ليست مجرّد قضيّة اختفاء شخص، بل هي قضيّة وطنيّة وإنسانيّة تتطلّب منا جميعاً العمل من أجل كشف الحقيقة وتحقيق العدالة.
إنّ الإمام موسى الصدر سيبقى رمزاً خالداً في تاريخ لبنان، وسيظلّ مثالاً يُحتذى به في الفكر والعمل، وفي الإيمان بوحدة الوطن والمقاومة. وكم كان لبنان ليكون في حال أفضل لو كان الإمام الصدر ما زال موجوداً اليوم، يقود مسيرة النضال ويُعزّز الوحدة الوطنيّة في وجه التحديّات التي لا تزال تعصف بالوطن العربيّ والإسلاميّ، لا سيّما في غزة الجريحة قلعة الصمود والتحديّ.