من الصعوبة أن تملأ الفراغ الذي خلفه رجل بحجم السيد محمد حسين فضل الله فهو لم يتحرك بطريقة عشوائية في لبنان، وكان رجلًا منظمًا ومنظرًا وخطواته متوازنة ومتزنة وغير متسرعة.
ففي بلد مثل لبنان وفي الظروف التي عاشها هذا البلد في القرن الماضي استطاع أن يكون له اسمًا وحجمًا حيث تكثر فيه الزعامات في الطائفة الواحدة وما ميز فضل الله عن الآخرين أنه وجد ترحيبًا لدى الطوائف الأخرى والديانات الأخرى وهو أمر قد قل نظيره لدى الآخرين، فقد كان زعيمًا لبنانيًا وبعد زعيمًا إسلاميًا او مرجعًا إسلاميًا.
ومع كل هذا لم تشغله مسألة الزعامة ولم تمثل له عقدةً فكان حضوره زينةً في التجمعات التي كانت تعقد باختلاف مشاربها، فقد كان اسمه جاذبًا للحضور لا طاردًا له، ولسان الحال “تعالوا لنسمع لفضل الله”، وهو أمر يكاد يكون غير مألوف في عالم الاختلاف والتناحر في بلد مثل لبنان، حيث تمزق الخلافات النسيج الاجتماعي وتمزق الطوائف فيما بينها، وعندما تتحدث بالاسلام السياسي وتعمل به قد يصعب عليك التحرك على الآخرين في البلد المتعدد ولكنه ضيَّق المساحات وجعل مفهوم الإسلام السياسي بعنوان الانفتاح على الاخرين دون تفكيك للاصالة او هروبا منها من أجل إرضاء الاخرين بل كانت تأصيلاً لأصالة الإسلام في فهمه للحركية الاسلامية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، امن بالحوار من أجل المشتركات في وطن تتقاذفه الرياح هذا الحوار كان منطلقًا من الفهم الاصيل للقران ولحركة الرسول الكريم (ص) {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }.
كان يعلم أن الخلافات والتراشق الاعلامي والمنبري لا يخدم أبناء بلده لبنان، ولكنه لم يهادن الظالمين صغيرهم وكبيرهم، لذلك استشعرت الدوائر الاستكبارية والمحلية والاقليمة خطره ،والتي لا تعرف إلا القتل وسيلة للخلاص من الخصوم، ولهذا كثرت محاولات الاغتيال وتحدث عنها اصحابها في مذكراتهم.
وفضل الله لم يكن خصمًا سهلًا فهو امتلك عقلية تنظيمية وتنظيرية بنى قواعد حركته من الشباب التي تربت على على منبره ودروسه القرآنية الحوزوية لتتصدى لمسؤولياتها بعد ذلك.
لذلك حاولوا قتله وتغييبه بأكثر من محاولة، وعندما يفشل القتل الجسدي تلجأ قوى الاستكبار للقتل المعنوي وهو اشد فتكًا وإضرارًا، ومع هذا صبر وانتصر فلم تنجح محاولات محاصرته بحملات التضليل بل جعلته اكثر إصرارًا وكأنه ازداد قوة بازدياد الهجمات عليه ،متشبعا بتجارب الانبياء والمرسلين في فهمه لحركتهم ومعاناتهم مع الامة وكان شعاره “مشكلتي ليست مع هؤلاء” فبقى مصرًا على اصالته دون مهادنة انطلاقًا من خطبه في مسجد الامام الرضا ثم في مسجد الحسنين وكان المسجد لديه المثابة والانطلاقة، ولهذا اهتم ببناء مسجد جامع في الضاحية لجعله ركنًا في حركته التوعوية واراد لمسجد (الحسنين) أن يكون انطلاقة نحو المجتمع بكافة تلوناته ومكانا يحتضن الشباب لافراغ همومهم في معاناة الحياة الضاغطة اجتماعيا وامنيا وسياسيا وثقافيا ليكون الحصن الذي يتسلح به الكل، كان مؤمنا من ان المسجد هو مركزية الانطلاقة للمجتمع في استلهام واصح لسيرة الرسول الاكرم (ص) في المدينة فكانت أول أعماله بناء مسجد فيها.
فكان المسجد مركزًا لمؤسساته الاخرى فيما امن به لتكون منه الانطلاقة واليه المرجع فهو بيت الله الذي يتعبد فيه الناس.
كان فضل الله العقل التنظيمي الشمولي الذي أرق الدوائر الاستكبارية وأعشاش الجهلة وظنت هذه الدوائر أنها تخلصت منه برحيله عن عالمنا الدنيوي، ولكن مدرسته باقية وفكره مازال ملهما للشباب، وبهذا يبقى حضوره متجددا ولا اُغالي إن قلت أن مكانه لم يملئه أحدٌ بعده، ومازال يمثل قلقًا مستدامًا للجهلة والمتخلفين والتكفيرين والمستكبرين بكل أصنافهم .
ولانملك إلا أن نسلم بقضاء الله وقدره واخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
* لازلت ارى به حاضرًا ولهذا اكتب بدلا من ذكرى وفاته (ذكرى حضوره)