اسمها الرسمي “نَبْعة تريڤي” Trevi على اسم ضاحية تريڤي (إِحدى ضواحي روما الاثنتين والعشرين). لكن رمزية زيارتها جعلَتْها نظريًّا وشعبيًّا “نافورة العشاق”، لظاهرة أَن العاشقِين يزورونها معًا، ويرمون فيها معًا قطَعًا معدنية من النُقود، تَيَمُّنًا بسعادة حُبِّهما وديمومته.
فماذا عن هذه النبعة التاريخية التي تكرَّسَت أَحد أَبرز المعالم السياحية في العاصمة الإِيطالية؟
القرن 19 قبل الميلاد
لعلّها أَكثر المعالِم في روما اجتذابَ سياحٍ للأُمنيات والأَحلام، ووُقوفًا أَمام أُبَّهتها التاريخية وضخامة مبناها الممتدّ 49 مترًا عرضًا و26 مترًا عُلُوًّا. يذهب دارسُون إِلى أَنها الأَجمل بين ينابيع المدينة، وربما في كل إِيطاليا. ويرى لغويون أَن اسمها مُركَّبٌ من كلمتَين إيطاليَّتَين: “تْري” (ثلاثة) و”في” (الطريق) لمصادفة موقعها عند التقاء ثلاثة شوارع. وتكاد النبعة، برغم مبناها الضخم، تختفي بين تلك الشوارع الضيقة والأَبنية المحيطة. سوى أن خرير مياهها يُسمَع من بين جلبة الشوارع، إِلى أَن تطل فجأَة على السائح أَو الزائر في تلك الساحة الدائرية حولها.
تاريخيًّا يرجِّح الخبراء أَنها ترقى إِلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وكانت تشكِّل طرف القناة الـمُقَنْطَرَة العالية المسماة “سيِّدة المياه” (إِحدى 11 قناة كانت عصرئذٍ تمد المدينة القديمة بالمياه). كان النبع الدفَّاق في “سالوني” يبعد نحو 21 كلم عن المدينة، فأَمر حاكم روما ماركوس أَغريــپـا (63 – 12 ق.م.) ببناء قنوات عالية ذات قناطر، تجري فيها المياه إِلى المواطنين في روما، لأن المياه كانت حياة المدينة، ومياه نبع “سيِّدة المياه” كانت الأَنقى والأَصفى والأَعذب. ويأْتي اسمها من أُسطورة جاء فيها أن عذراء في المدينة كانت ترشد الرومانيين إِلى مقر النبع.
كان مقرّ النبعة ضئيلًا، وجرت عبر العصور محاولات لتوسعة مجاريه. في القرن الخامس عشر بادر البابا نقولا الخامس (1397-1455) إِلى تكليف المهندس ليون باتيستا أَلبرتي (1404-1472) وضْع تصميم لنَبعة من ثلاث فتحات. وفي القرن السابع عشر بادر البابا أُوربانوس الثامن (1568-1644) إِلى تكليف المهندس النحات جيان لورنزو برنيني (1598-1680) وضْع دراسة توَسِّع تصميم أَلبرتي، لكن نقص التمويل فترتئذٍ أَحبطَ المشروع.
القرن 18 للميلاد
وما إلَّا في القرن الثامن عشر حتى كانت نبعة تريڤي على الشكل الذي نعرفه اليوم، وذلك ببادرة البابا كليمندوس الثاني عشر (1652-1740) إِذ أَطلق مسابقة لأَفضل تصميم ففاز بالمسابقة المهندس نيكولا سالْڤي (1697-1751). استمر العمل ثلاثة عقود لإِنجازه بسبب مضايقات وصعوبات عدة. ومات البابا ومات سالڤي قبل إِنجازه، فواصل العملَ مساعدُهُ المهندس جيوزيـپـي پانيني (1718-1805) حتى أَنجزه كلِّيًّا سنة 1762.
في هندسة النبعة أَنها تحتضن 300 أَلف ليتر من المياه، وذلك إِكرامًا أَهمية المياه في حياة الرومانيين. في وسط الصرح تمثال أُوقيانوس، إِله نهر أُوقيانوس (في الميثولوجيا اليونانية أَنه نهر يلُفُّ كوكب الأرض)، نحتَه الفنان پيترو براتشي (1700-1773) وهو بعُلُوّ نحو خمسة أَمتار، يجر عربتَه حصانان يمثِّلان حركة تدفُّق المياه: أَحدُهما هادئ والآخر جامح.
إِلَهَتان: للخصوبة والصحَّة
وراء أُوقيانوس، في مغَارتين، تمثالان لإِلهة الخصوبة وإِلهة الصحة، نحتهما فيليپو دُلاڤالي (1698-1768) وفي كليهما رموز مائية: إِلهة الخصوبة تحمل بوقًا مليئًا بالثمار، وإِلهة الصحة متوَّجة بإِكليل الغار (الغار نبتة أَپولو المقدَّسة) وعلى جنبها حية تحاول أَن تشرب من الكأْس. عند بناء النبعة كانت المياه صالحة للشرب، أَما اليوم فلم تعد كذلك لأَنها تمر بقنوات عدة في المدينة قبل أَن تصل إِلى البَحرة.
بين ذينك التمثالين حفْران نافران يمثِّلان مقر النبعة من نحت جيوڤاني باتيستا غروسي (1605-1666) وأَندريا بيرغوندي (1743-1789)، إِلى اليسار ماركوس أَغريپا حاكم روما يشرح مخططه للقناة العالية المقنطرة، وإِلى اليمين العذراء التي ترمز إِلى نبع الحياة.
في قمة المبنى تماثيل تجسِّد الفصول الأَربعة، وتبدو ذراع البابا كليمندوس الثاني عشر وتحتها كتابة: “البابا كليمندوس يبارك قناة العذراء إِلهة الخصوبة والنقاء – سنة 1735 وهي السنة السادسة لحبريته”.
ترميم تموِّله مؤَسسة تصميم
سنة 2013 كان لا بدَّ من عملية ترميم وتنظيف جذرية، فتمَّ ذلك بتمويل من مؤَسسة فِنْديFendi الفخمة لتصميم الأَزياء (تأَسست في روما سنة 1925). استغرقت العملية نحو سنتين وكلَّفت نحو مليونَـي يورو. وبعد الترميم صدر قرار حاسم حازم يحرِّم لمس المياه في البَحرة تحت طائلة العقوبة الصارمة.
في العصر الحديث، بلغَت شهرة “نبعة تريفي” أَن دخلت في عدد من الأَفلام السينمائية، منها “دولتشي ڤيتَّا” (1960) لفردريكو فيلِّيني من بطولة مارسيلو ماستروياني وأَنيتا إِكْبُرك في مشهد حب أَمام بحرة النبعة. وكذلك في الفيلم الأَميركي “ثلاث قطع نقود في النبعة” (1954).
عن الأُسطورة أَنْ إِذا رمى السائح قطعة نقود واحدة في البَحرة سيزور روما، وإِذا رمى اثنتين فسوف يعرف الحب الكبير، وإِذا رمى ثلاثًا فسوف يتزوج حبيبته ويكون زواجهما سعيدًا.
وبات رمي النقود ظاهرة مأْلوفة أَمام النبعة، ودلَّ آخر إحصاء (2021) على جمْع مليون يورو من البَحرة، تَمَّ توزيعها على جمعيات خيرية في إِيطاليا.
الحب يأْتي ولو متأَخِّرًا
وما زال العشاق “يحجُّون” يوميًّا إِلى “نافورة العشاق”، يرمون قطَع النقود، ويتبادلون نظرات الحب والتمنِّي أَن يتوطَّد حبُّهم أَكثر فيعرفوا السعادة الغامرة. منهم مَن يشتعل حبهم أَكثر، ومنهم مَن ينتظرون سنواتٍ حتى يلتقوا بالحب، الحب الكبير، الحب الحقيقيّ، إِلى أَن يأْتي فجأَةً بغير انتظار، فيعوِّض سنواتِ الصحراء المالحةَ، ويُزْهر الحب مشتعلًا برحيق الورد وأَرَج الغاردينيا، وعندها يعيش العاشقان في جو رائع من الحب والتعلُّق والولَع والولَه والشغَف والانشداد، تباركُهما لحظة السعادة والجمال.