إقتصادازمة لبنانالاحدث

الأزمة مع السعودية ، تداعيات اقتصادية أغفلت | كتب البروفسور نيكول بَلّوز بايكر والبروفسور مارون خاطر

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

شكَّلت تداعيات الأزمة بين لبنان والمَملكة العربيَّة السعودية وتمدُّدِها إلى دوَل الخليج العربي

أحد أبرَز عناوين السياسة والاقتصاد في الأسبوعين الماضيين.

فالأزمة التي انفَجَرَت بصاعقٍ إعلاميٍّ لا يُبرِّرُهُ زمانُهُ، تُخفي وراءَها تراكماتٍ سياسيةً واستراتيجية تعود لسنواتٍ عديدةٍ خَلَت. أمَّا التعامل مَعَها فيعكِسُ اختلافَ اللبنانيين ومَن يُمثِّلهم حَولَ مصلحة لبنان الوطنيَّة، لا بَل حَول لبنان الوطن نَفسِهِ.

أضاءت الصحافة على التداعيات الاقتصاديَّة الراهنة والمُرتَقبة للأزمة المُستَمرَّة بسبب التعنُّت والارتهان. ركَّزت العشرات من التقارير والمقالات على حجم الصادرات المحظورة كما على أعداد المُغتربين عمدًا، المُغَرَّبين قَسراً والعائدين المُحتَملين هباءً، وعلى حجم الاستثمارات والتحاويل.

إستندت هذه الأعمال إلى جهودِ وأبحاث مُعدِّيها في غياب قواعد بياناتٍ لبنانيَّة رسميَّة ومُحَدَّثة، إلَّا أنَّها أغفَلَت حيِّزاً مُهمَّا من الخسائر الاقتصاديَّة التي يتكبَّدُها لبنان بفعل الاستكبار والدخول الى مُعتَرَك الكِبار. يُشكِّل انخفاضُ مساهمة رأس المال البشري اللبناني (Human Capital) في ميزان المدفوعات أبرز ما لم يتم التطرُّق له وهو ما سيُشكّل ركيزةَ ومحورَ ما سنُقدّمه في مقاربتنا. نُشيرُ في هذا الإطار إلى أن تهاوي مؤشر رأس المال البشري اللبناني بفعل تراجع مستوى التعليم والصحة والذي أشارت إليه تقارير البنك الدولي الأخيرة، يُشكّلُ بحدِّ ذاته نكسةً للاقتصاد اللبناني المُنهار. يؤدِّي استمرار الأزمة الأخيرة مع المملكة ودول الخليج الى القضاء على ما تبقّى من عائدات هذه الميزة التفضيليَّة التي لطالما تغنَّى بها لبنان.

تؤكِّد النظريَّات الإقتصادية وجود ارتباطٍ سلبي بين البطالة الناتجة من الأزمات والتدنّي في مستوى الأجور. لذلك، وعند زيادة نسبة البطالة بنتيجة الأزمات، تنخفض قوَّة التفاوض (Bargaining Power) لدى الباحثين عن عمل. يتسبَّبُ ذلك بإنخفاض الأجر المتوقَّع والمُتوافَق عليه بين الأطراف وسط تجاهلٍ مُتعمَّدٍ للمهارات والخبرة والاختصاص وطبيعة العمل. في الاقتصاد المفتوح (Open Economy)، تتخطَّى مفاعيل هذه العلاقة المُثبَتة حدود الوطن إلى بلاد الانتشار. بافتراضِ تساوي العوامل الأخرى، فإنَّ الأزمة مع المملكة العربيَّة السعودية ودول الخليج تَدفَعُ إلى الحضيض بهامش التفاوض لدى اللبنانيين المُنتشرين عند تجديد عقودهم أو عند توقيع عقودٍ جديدةٍ. ينعكس ذلك حتمًا على حجم التحويلات بدون انتظار أن تُفرَضَ علينا أيُّ تدابير جديدة. أضف الى ذلك أنَّ تضييق هامش التفاوض يُنذِر بعواقب كارثية على حجم صادرات الخدمات (Service Export) من خدماتٍ استشاريَّة وتدريبيَّة تُساهم في نهضة وتطوّر اقتصادات الدول. نُشير إلى أن هذه الخسائر لا علاقة لها بالتدابير العقابيَّة المُحتَملة التي قد تطال التحويلات إذ يُصنِّفها ميزان المدفوعات (Balance of Payment) في خانة الصَّادرات في الميزان التجاري.

في سياقٍ أخر مُتَّصِل، من المتوقَّع أن تكون للأزمة مع المملكة ودول الخليج تداعيات على إيرادات الاستثمار (Investment Income) كالأرباح على حقوق المُساهمين والعائدات على الدين وأرباح الأسهم في حال طبَّقت الدول العربيَّة موانعَ قانونيَّة أو تجاريَّة تُقَّيد الحركة الاستثماريَّة للبنانيين. بالعودة إلى ميزان المدفوعات، نرى أنَّ هذه العائدات تقع تحت الحساب الجاري (Current Account) وهي بالتالي تُشكِّل خسائر مُحقَّقَة لا يتم إحصاؤها مع التحويلات ولا تُعتبَر جُزءًا من الميزان التجاري (Commercial Balance) . بذلك، وفي الوقت الذي تَشخَصُ فيه العيون على حجم التحويلات وما ينتظرها من إجراءات، تَطالُ التداعيات الإقتصاديَّة للأزمة الناتج القومي اللبناني من بوابة العائدات الاستثماريَّة والاستثمارات. أخيراً، لا بدَّ من الإشارة إلى أن اتِّخاذ أية تدابير أو خطوات عقابيَّة، ديبلوماسية كانت أم تنفيذية، تُحظّر استثمارات اللبنانيين وصادراتهم وتحويلاتهم إنَّما تُشكِّل فُرصاً ضائعة (Opportunity Cost) يعتبرها عِلم الاقتصاد بمثابة خسائر حقيقيَّة ومُؤكَّدة. إلى هذه الخسائر نُضيفُ ما تُسبِّبُهُ هذه الأزمة من تدهورٍ إضافي لعامل الثقة بالإقتصاد اللبناني المأزوم أصلاً، مما سَيُتَرجَم بالتأكيد إنخفاضاً في مستوى وطبيعة التدفُّقات النقديَّة للمغتربين في دول الإنتشار العربية وفي العالم. نَلفت في هذا الإطار إلى حدوثِ تغيُّيراتٍ هيكليَّة على مستوى التحويلات التي انتفت عنها صفة الاستثمار وباتت بأغلبيتها استهلاكيَّة إغاثيَّة وعائليَّة.

في ختام عرضنا الاستكماليّ للتداعيات الإقتصاديَّة للأزمة المُستجدَّة والمستمرَّة مع العرب، لا بُدَّ من التَّنبيه إلى التأثيرات المُرتَقَبة لهذه الأزمة على أيَّة خطة نهوض اقتصاديَّة ترتكز على النموّ. فإن كان النموُّ يُشكِّل الطريقة المُثلى لامتصاصِ الخسائر كما يَنصح صُندوق الَّنقد الدَّولي، فالاستثمار هو الباب الأوحد للنموّ، والامتداد العربي هو المصدر الأول للإستثمار. بناءً على ما تقدَّم، وعلى الرُّغم من عدم صوابيَّة حَصر تداعيات الأزمة مع المملكة والعرب بشقِّها الاقتصاديّ، فإننا لا نرى قيامةً للبنان الرازح تحت صليب أزماته إلّا في حضن محيطه العربي الذي يُشكّل امتداده التاريخي والحضاري والاستراتيجي.

ليس بإمكان لبنان العربي الهويَّة والانتماء، والقادر بالكاد على مدِّ يدِهِ، أن يرفع إصبَعَهُ في وجهِ أحد إلّا في وجه الاحتلال!

رحم الله قائلاً: “إعرف نفسك” ورَحِم من “عَرَفَ قَدْرَ نفسه فَوَقَفَ عِندَهُ” …

أعان الله لبنان!
مصدر المقال : اضغط هنا

البروفسور مارون خاطر، باحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة

أستاذ في جامعة القديس يوسف ومحاضر في كلية القيادة والاركان في لبنان. محاضر دولي في جامعة ليل في فرنسا. كاتب وباحث متخصص في الشؤون المالية والاقتصادية.له مداخلات مكتوبة ومرئية متخصصة دائمة في الإعلام اللبناني والعربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى