في التحولات الإيديولوجية للأحزاب السياسية، أين موقع خطاب الحزب التقدمي الاشتراكي اليوم من فكر كمال جنبلاط | بقلم الباحثة د. ناهدة محمود
يحاول الحزب التقدمي الاشتراكي أنّ يلعب دور الوسيط ضمن المعادلة اللبنانية الطائفية، والتي تعطي أرجحية في السلطة للتمثيل السياسي للطوائف، وتخضع بالأساس لقانون الأعداد الديموغرافية الكبرى. لذلك نجد أنّ مضمون خطابه يتقاطع مع الأحزاب الطائفية في تحصيل حصص الطوائف، وخاصةً أنه يعتبر من الأحزاب الرئيسية التي شاركت في الحرب الأهلية، ومن ثم شاركت في السلطة منذ توقيع اتفاق الطائف.
كما يبدو أنّ هذا الحزب يفصل بين أهداف الحزب ومشروعه الإصلاحي الذي يقوم على بناء مجتمع علماني ودولة علمانية وبين اتفاق الطائف وضرورة تطبيقه، باعتباره محطة على طريق الإصلاح السياسي. يقترب فكر الحزب التقدمي في طرحه لمفهوم الدين من الفكر السوسيولوجي الغربي، حيث يعتبر أنّ الدين هو حاجة مجتمعية، وللجماعات الطائفية حق في ممارسة شعائرها دون أن يعني ذلك إعطائها امتيازات سياسية. وممارسة تلك الشعائر تبقى مسألة فردية وليست جماعية حتى لو كانت مرتبطة عند بعض الجماعات الطائفية بمسألة وجودية عقائدية. وإنّ بناء الدولة قائم على علاقة الفرد بالدولة ومؤسساتها بدون أي وسيط جماعي.
في الواقع لقد مزج «كمال جنبلاط» مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي بين الزعامة الدرزية وعصبية «بيت جنبلاط» التي تعود إلى عهد الإمارة، وبين الحداثة لجهة طروحاته الإصلاحية وعقيدته الاشتراكية. وجمع هذا الحزب بين اليسارية والعلمانية والعروبة والإسلام. وقدم جنبلاط مشاريع قوانين لهيكلة الدولة وتطويرها، وكان من أشد المناصرين للنهج الإصلاحي. بشكل عام تفضي مقاربة كمال جنبلاط إلى قيام هوية لبنان بحدوده الجغرافية الحالية، ولكن وفق مرتكزات علمانية تبتعد عن الدمج بين الطائفي والديني بالسياسي. واعتبر أنّ الشعور الطائفي يعيق بناء وحدة بين اللبنانيين. واتبع مسلكًا فكريًا يتعارض مع القواعد التي أرسيت مع شيحا والحاج، والتي شكلّت مرتكزًا لقيام الوحدة في الهوية القومية للبنان. وكذلك عارض فكرة الكيانية التي قامت على المواءمة بين الكيان والوطن المسيحي. ورغم ذلك وجهت سياسته نحو إعادة الاعتبار لحقوق الطائفة الدرزية التاريخية في المشهد السياسي اللبناني. ودعا إلى علمنة النظام السياسي وإصلاحه، ولكنه لم يتمكن من تحقيق مشروع علمنة المجتمع، وخاصةً داخل الطائفة الدرزية.
حافظ وليد جنبلاط بعد اغتيال والده على موقعه كزعيم الدروز الأول والقطب الأكثر نفوذًا، واستعاد دوره كلاعب أساسي في المعادلة السياسية. ورغم طروحات الحزب التقدمي الاشتراكي للمشاريع الإصلاحية والمناداة بالعلمنة وإلغاء الطائفية السياسية، فإنه حزب ذو علاقة بالطائفة وبإحدى حزبياتها التقليدية الراسخة وبين الطوائف في مناطقها حاضرًا وماضيًا، واستفاد من حزبية رئيسه التقليدية ليكون حاضرًا بفعالية في الحقل السياسي اللبناني كون النظام السياسي القائم على التوزيع الطائفي لا يستطيع إهمال مكوناته، ووفرت له موقعًا جغرافيًا مكينًا واستراتيجيًا وقاعدة اجتماعية ثابتة وملاذًا آمنًا. واستفاد الدروز من الحزب التقدمي الاشتراكي بنقل الصراع ضمنهم من صراع على حصة الدروز في النظام السياسي اللبناني إلى صراع على دور الدروز فيه وفي المنطقة. وبقي خطاب الحزب يتمحور حول محاولة «تحجيم» حصة الحزب ضمن المعادلة اللبنانية، وهو الحزب الذي يتمتع بتمثيل سياسي واسع في الطائفة الدرزية، ما يعني بالنسبة إليه تهميشًا لحقوق تلك الطائفة ضمن المحاصصة الطائفية وتقاسم السلطة،في ظل تفاوت الشعور بالإنتماء للدولة، في حين تتعزز الانتماءات التقليدية لاقترانها بدوام الحفاظ على السلطة لدى الأكثريات، والخوف من ضياع الحد المعقول والمسموح به لدى الأقليات في ظل نظام يراعي قانون الأعداد الكبرى وحجم الطوائف الديمغرافي في التوزيع الطائفي والتمثيل السياسي.
في النتيجة إنّ إيديولوجيا أي حزب سياسي أو جماعة معيّنة عندما تصل إلى غايتها وتتحوّل مؤسسات وممارسات وأعرافًا وعادات، وتحقق تمامًا ما وعدت به، فتصبح أمام وضع تقليدي جديد تستمر فيه حتى تنشأ انقلابة اجتماعية تاريخية تستدعي رؤية جديدة تعجز الإيديولوجيا السائدة عن توفيرها، وترفض أن تعترف بهذا العجز.
وفي أسوأ الأحوال، تجد النظرية الإيديولوجية نفسها في طلاق كامل مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تكونت لأجله. فلا هو يفهم خطابها، ولا هي تفهم تطوّره وأسباب ابتعاده عنها. ويمكن تسمية الشكل الأول شكل الإستنفاد، والثاني شكل الهامشية أو الإنقطاع، والشكل الثالث شكل التطابق المتراجع. ولكن هذا الشكل من المأزق الإيديولوجي يؤدي إلى تدمير البنية الإيديولوجية القائمة فتتحوّل النظرية الإيديولوجية إلى مجموعة تصوّرات خالية من المعنى الواقعي والوظيفة العملية وقد يؤدي ذلك إلى حصول انشقاق داخل الجماعة. وفي الحالة هذه تعيد الإيديولوجيا بناء نفسها بطريقة أكثر تصلبًا. في الوقت ذاته يتم الإنتقال إلى بناء إيديولوجي جديد يعي أهمية التطابق مع الواقع المستجدّ.