اللبنانيون في قلب “جهنم”… لماذا نُبقي الأفق مسدودًا؟ | بقلم أحمد بهجة
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مما لا شكّ فيه أنّ استمرار التأزم السياسي وعدم اكتراث المسؤولين، وفي ظلّ الانهيار المالي والاقتصادي، يجعل مسلسل سقوط الليرة اللبنانية أمام الدولار متواصلًا من دون معالجات.
لقد هوَت العملة اللبنانية في الأيام القليلة الماضية بشكل دراماتيكي، ولامس سعر صرف الدولار في السوق السوداء الـ 36 ألف ليرة، وسط مؤشرات تشي بمزيد من الارتفاعات من دون سقف محدّد في الأشهر المقبلة إذا استمرّ التأزّم السياسي ودخلنا في مرحلة الفراغ الرئاسي، لأنّ عودة الثقة بالليرة مرتبطة بهيبة الدولة وبرنامجها وخطتها الاحتوائية والعلاجية.
إنّ أبسط واجبات المسؤولين عن الحكومة أن يجدوا المعالجات المناسبة لهذا الانسداد، خاصة أنّ هناك عروضًا اقتصادية وإنمائية من عدة دول شقيقة وصديقة من شأنها ان تحلّ الكثير من المشاكل التي لا يمكن أن تنتظر انتهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي يُرجح ان تمتدّ الى ما بعد الانتخابات، والتي لا تشكل الحلّ المنشود والمتكامل، لأنّ ما يطرحه الصندوق هو إمدادنا بنحو ثلاثة مليارات دولار خلال أربع سنوات، من دون أيّ خطة أو جدول بشأن كيفية ووجهة صرف هذا المبلغ، بما يعني أنّ هذا المبلغ سيذهب في سياق سياسة الاستهلاك القائمة والتي أحرقنا فيها الكثير من المليارات منذ ثلاثين سنة حتى اليوم.
وهنا لا بدّ من التحذير من عواقب استمرار إهمال الحلول الجدية، لأنّ الناس لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من المماطلة والتأجيل، وبات من المُلحّ جدًا أن تتخذ الحكومة القرارات العلاجية المناسبة وأن تأخذ هذه القرارات طريقها إلى التنفيذ، علمًا أنّ العلاج متوفر وموجود ويحتاج فقط إلى رجال دولة قادرين على تحمّل المسؤولية واتخاذ ما يلزم من قرارات.
ويعرف الجميع أنّ الانهيار الكبير الحاصل منذ ثلاث سنوات، والذي تزداد وتيرته يومًا بعد يوم لا يمكن أن يعالَج بالمسكنات، بل يحتاج إلى علاج قد يكون قاسيًا في المرحلة الأولى ولكن لا بدّ أنّ نستأصل العلة من أساسها لكي نوفر سبل التعافي الحقيقي لاقتصادنا ولبلدنا.
لكن مع الأسف الشديد فإنّ سياسة “راوح مكانك” هي المتبعة منذ ثلاث سنوات، الأمر الذي يجعل الأزمة تشتدّ ومعها تزداد معاناة المواطنين، خاصة أولئك الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية، بحيث فقدت مداخيلهم حوالى 95 في المئة من قيمتها، وبات هؤلاء يُحسبون في خانة الفقراء بعدما كانوا سابقًا في خانة متوسطي الدخل. ومع تدني قيمة العملة الوطنية، فقدَ مئات آلاف اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومعهم عدد غير قليل من الأشقاء العرب، وبعض الأجانب أيضًا، فقدوا مدّخراتهم وتمّت سرقة ودائعهم وجنى أعمارهم…!
هنا لا يمكن تبرئة المصرف المركزي من هذه الجرائم ومن تفلّت أسعار صرف الدولار وتركه بلا سقف، فهذا المصرف وحاكمه ومعه مَن معه من سياسيين وأصحاب مصالح كبرى وإعلاميين وبعض رجال الدين الذين يرسمون الخطوط الحمر… هؤلاء جميعًا مسؤولون بشكل مباشر عن الكارثة التي يعيشها اللبنانيون اليوم.
وقد أثبتت الوقائع الاقتصادية والمالية في السنوات الأخيرة أنّ “الحاكم” يعمل وفق أجندة خاصة به ينفذها على ذوقه بدون العودة إلى الحكومة أو إلى المسؤولين المباشرين عنه…
ورغم أنّ قانون النقد والتسليف يعطيه حصانة معيّنة إلا أنه تجاوز هذا القانون إلى درجة أنّ البعض بات يُسمّيه “حاكم لبنان” وليس حاكم مصرف لبنان!
ربما لا يظهر هذا الأمر كثيرًا حين يكون رئيس الحكومة من المنظومة السياسية نفسها التي ينتمي إليها الحاكم، لكن حين كان البروفسور حسان دياب رئيسًا للحكومة ظهرت مخالفات رياض سلامة بشكل فاقع جدًا، حيث لم يتمكّن رئيسا الجمهورية والحكومة وقتها معًا من الاطلاع بشكل دقيق على حسابات مصرف لبنان، وكلّ ما زوّدهم به الحاكم ورقة A4 عليها بضعة أرقام مكتوبة بقلم رصاص ما يعني أنها قابلة للتعديل…
كما أنّ “الحاكم” يتمنّع عن المثول أمام القضاء في قضايا عديدة لا بدّ من الاستماع إليه فيها، وهو يختبئ في مكتبه مدعومًا من جهات عدة داخلية وخارجية تدّعي أنها تريد محاربة الفساد وإقصاء الفاسدين، مثل تلك الجهات التي قالت إنها لا تريد أن تمرّ أيّ مساعدة تأتي إلى لبنان عبر القنوات الرسمية، فاستعانت بما يُسمّى الـ “ngos” وأرسلت لها مليارات الدولارات ولم يصل منها للناس إلا القليل القليل…
هناك من يحاول أن يوهم المواطنين بأنّ وضع البلد ميؤوس منه، وليس هناك إنقاذ إلا باستخراج الغاز والنفط بأسرع وقت، وذلك حتى يستسلموا للأمر الواقع ويقبلوا بأيّ اتفاق يأتي به الوسيط الأميركي لترسيم الحدود البحرية،
صحيح أنّ ثروتنا البحرية كنز يجب أن نستفيد منه في إنقاذ بلدنا وشعبنا واقتصادنا من الأزمات المتراكمة التي وصلنا إليها بفعل سياسات خاطئة استمرّت أكثر من ثلاثة عقود، لكن الصحيح أيضًا هو أن لا نقبل بأيّ ترسيم كان، بل نقبل فقط بما يناسبنا ويحفظ حقوقنا في كلّ ثروتنا التي نعتبرها خطًا أحمر، وإضافة إلى موضوع النفط والغاز الذي يشكل عاملًا أساسيًا في الإنقاذ، هناك قطاعات عديدة لا بدّ من تفعيلها حتى تعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران وإلى الإنتاج، لأن لا إنقاذ بدون الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي والخدماتي، ولا بدّ من إخراج اقتصادنا من نمط الاستهلاك الحالي والذي لم يعد بمقدورنا الاستمرار به على الإطلاق…
ولا شيء ينفع على هذا الصعيد إلا قرارات جذرية تؤدّي إلى نتائج باهرة مثل القبول بالهبة الإيرانية المجانية لتزويد لبنان بما يحتاجه من فيول لتشغيل معامل الكهرباء التي تستطيع بقدرتها الحالية على الإنتاج تزويد اللبنانيين بمعدل 12 ساعة يوميًا بالكهرباء، وعندها يصبح بمقدور معظم الأسَر اللبنانية الاستغناء عن الاشتراك بالمولدات الخاصة التي لا تقلّ فاتورتها الشهرية عن مليوني ليرة، إضافة إلى الانعكاس الأساسي لهذا الإجراء على سعر الصرف بحيث نستغني عن إخراج كميات كبيرة من الدولارات من السوق المحلية من أجل استيراد الفيول، ونستطيع جعل نتائج هذا الأمر مضاعفة إذا استكملنا الإجراءات الجذرية بقرار استيراد المحروقات من إيران بالليرة، الأمر الذي يوقف استنزاف البلد من خلال الحاجة إلى العملات الصعبة لاستيراد المحروقات على أنواعها… وهناك مَن يقول إنّ هذين القرارين كافيان لكي ينخفض سعر صرف الدولار أكثر من 15 ألف ليرة خلال أيام معدودة، وهذا هو بالضبط السبب الأساسي لممارَسة كلّ الضغوط الممكنة لمنع أركان السلطة من اتخاذ مثل هذه القرارات، والخلاصة هنا هي أننا بحاجة ماسة إلى مسؤولين قادرين على صدّ الضغوط وتجاوزها والقيام بما يلزم من أجل مصلحة لبنان واللبنانيين…