طرابلس مدينة “مفتوحة” امنياً وسياسياً. – كتب د. سامر الحجّار
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
التحركات التي جرت في طرابلس في الآونة الأخيرة متوقعة و طبيعية. المدينة تعاني منذ سنوات من مشاكل اقتصادية، والأرقام والمؤشرات صارت معروفة لدى الجميع. نضيف إلى هذا، قرار الإغلاق الذي اتخذته الحكومة من دون أي دعم للفئات المهمشة. الطرابلسي مخنوق إن جاز التعبير، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً.
إضافة إلى الوضع الاقتصادي، ما زالت طرابلس مؤمنة بأهمية الاحتجاجات الشعبية في الشارع. يكاد لا يمر يوم إلا و بعض المجموعات تقوم بتحركات.
كل هذا أدى إلى الأحداث الأخيرة، سنوات من الضائقة المالية والاجتماعية، أشهر من التحركات على الأرض، كان ضرورياً لكثير من المجموعات حينها المشاركة بشغب ما، بعنف ما، لإيصال الصوت.
لا يمكن مقارنة وضع طرابلس مع أي مدينة أخرى. فإن كانت هناك مناطق تواجه تحديات الأزمة المالية والاقتصادية بمبادرات خيرية أو عبر التحويلات المالية من الخارج، فإن الوضع الديموغرافي والاجتماعي في المدينة مختلف وشائك. وطرابلس تشعر بمظلومية كبير في علاقتها مع الدولة. المدينة تفتقر إلى أدنى مقومات البنى التحتية، وهناك أسوأ ظروف حياتية للأفراد بالرغم من وجود إمكانيات وقدرات كبيرة في المدينة. فعلياً، لا يوجد راع رسمي للمجتمع الطرابلسي يدير مشاكله، يحميه أمنياً، ويعمل على إنماء مدينته. يكفي هذا الشعور لدى أهل المدينة لنرى ما رأيناه في الشارع خلال الأيام الماضية.
كعادتها، حاولات التيارات السياسية التقليدية في المدينة التلطي وراء الأحداث وتسلق مشاكل الناس. حاولت هذه التيارات منذ اليوم الأول استغلال الموقف وإلباس نفسها ثوب المظلومية والظهور بموقف المظلوم المدافع عن المدينة. قامت بعراضات دعم للبلدية وحملات استعراضية كان الهدف منها حفظ ما تبقى من ماء الوجه والتنصل من المسؤولية. لكن هذه التيارات تعلم أن لا شيء يمكن بعد اليوم أن يمنع من تكرار أحداث مشابهة للتي شهدناها. فلا الاستعراضات تنفع لامتصاص غضب الناس، ولا العراضات تفيد بحل الأزمة في المدينة. كل ما تحاول أن تقوم به هذه التيارات هو استباق ما سيحدث في الأسابيع القليلة المقبلة بالقول إننا حذرنا من الوضع الاقتصادي في المدينة. ولكن، هل هذا كافٍ؟ هل يكفي أن يطل علينا رئيس حكومة سابق يربط حلول مشاكل المدينة بكراتين الإعاشات؟ هل من المعقول أن لتيار يدّعي تمثيل المدينة نائباً تقيم في الإمارات؟ لا شيء سيمتص غضب الناس وإن تغيرت أشكال التعبير عن الغضب وأساليبه.
بصراحة، لا أعلم من هي الجهة التي قامت بحرق المبني. ولكن ومن دون أي تبرير لهذا العمل المدان، عندما حذرنا جميعاً من انفجار اجتماعي نتيجة للوضع المعيشي، ماذا كنا حينها نتوقع أن نرى، أقل من هذا؟ السرايا أو البلدية مركز حكومي تابع للدولة، الدولة التي لا يحمل آلاف من شباب المدينة تجاهها إلا الكره والبغض نتيجة ما يجري. لنعترف أن هناك شعوراً سلبياً للغاية لدى كثير من شبان المدينة تجاه الدولة، وعليه إن ما حدث أو سيحدث لا يمكن تفسيره إلا من هذا الإطار.
ومن ناحية أخرى، لا أستبعد وجود مندسين. للأسف، المدينة “مفتوحة” أمنيا وسياسياً، ولطالما كانت ملعباً للصراعات المحلية والإقليمية. وهنا، لا يمكننا إلا أن نحمّل أجهزة الدولة كلها وعلى رأسها المحافظ عن هذا الأمر.
معظم الأجهزة الأمنية في طرابلس تلعب دوراً سياسياً وغير أمني. فعلياً، كل جهاز تابع لطرف سياسي، علاوة عن العمل لحماية الناس، تستعمل هذه الأجهزة سياسياً بكل مرحلة وتتصارع في ما بينها في كثير من الأحيان. الأجهزة الأمنية في طرابلس هي اللاعب السياسي الأهم، تسهم في لعبة الانتخابات، تحمي وتدعم “قبضايات” الأحزاب وتقمع حالات المعارضة.
شخصياً، لم أعد أهتم بتحميل الأجهزة الأمنية مسؤولية ما يجري، فهي أجهزة سياسية لم تقم بكثير من واجباتها من أكثر من 15 سنة. وإن لم تعد هذه الأجهزة لتقوم بدورها الحقيقي ويُكف عن استخدامها سياسياً، فإن فرص الاستقرار في المدينة ستكون شبه معدومة.
وتعاني المدينة من غياب معارضة منظمة حقيقية. كل محاولات التشبيك بين مجموعات صغيرة وناشئة إبان 17 تشرين تظهر ما يلي:
لدينا فقر في النضج والخبرة السياسيين وقصور في الرؤية في مواجهة حيتان السلطة. غياب الخبرة هو نتيجة التصحر السياسي في المدينة وفي البلد لمدة 30 سنة. ثلاثة عقود في المدينة من دون نادٍ سياسي، نخب المدينة موظفون لدى حيتان المدينة أو غير مهتمين بالشأن العام، وأخيراً المجموعات السياسية المعارضة المناضلة عانت ما عانته من مضايقات فتراجع دورها.
نضيف إلى ذلك، مشكلة المجتمع المعارض في المدينة، إنه ولغاية اليوم ما زال عالقاً بلحظة 17 تشرين. معظم المجموعات لم تتخلّ عن لحظة تشرين الرومنسية، وما زالت مصرة على استعمال اللغة نفسها واعتماد الأساليب ذاتها. وهذا ما يصيب كل هذه المجموعات بجمود. جمود الأداء والنتيجة.
إلى ما ذكرته، هناك مشكلة الثقة التي خسرتها المجموعات المعارضة من كثير من الناس. وهنا الطامة الكبرى. للأسف، المشكلة تمتد جذورها من فكرة أن بعض الأحزاب والحركات المعارضة حاولت الاستئثار بالمعارضة وحولت الثورة من مواجهة شعبية بين الناس والمافيا للاعب سياسي.
أخيراً، حاولت بعض المجموعات المعارضة تصويب بوصلة احتجاجات الناس أخيراً، وهذا إن دل على شيء فهو عدم دراية بالناس. كثير من المجتمع المعارض مصر على تثبيت الشرخ والانقسام الاجتماعي في المدينة بدلاً من العمل على تطوير حلول في هذا الاتجاه. لا يمكن لأي مجتمع معارض شعبي يريد أن يمثل الناس، كل الناس، وأن يصر على لغة “هم ونحن”، لغة “المتعلم وغير المتعلم” و”الواعي وغير الواعي”. للأسف، لم تعمل معظم المجموعات التي تدعي أنها تحاكي هموم الناس للاقتراب من الفئات المهمشة ومشاركها الخطاب. طالما استعملوا لغة “هم ونحن”، سنبقى بعيدين عن رفع راية المعارضة الشعبية.