لا لاقتباس بدعة الثلث المُعطِّل في أدبيات مجلس النُّواب | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يبدو أن المنحى التَّعطيلي أضحى أسلوباً سِياسِيَّاً يعتمدُهُ بعضٌ من سياسيينا بغرضِ تَحقيقِ مآرِبَهُم الخاصَّة، ضاربينَ عرضَ الحائطِ لكُلِّ المصالِحِ الوطنيَّةِ العليا، ومعاناةِ الشَّعب اللبناني الذي أنهكته تلك السِّياساتُ القائمةِ على المُهاتراتِ السِّياسيَّة حينا والمُماحكاتِ حيناً آخر.
نوَّابُ الأمَّةِ توجَّهوا يومَ التاسِعِ والعِشرين من شهر أيلول الفائت إلى المَجلسِ النِّيابي بدعوةٍ من رئيسِه لحُضورِ جَلسةٍ مُخصَّصةٍ من حيثُ الشَّكلِ لانتِخابِ رئيسٍ للجُمهورِيَّة، ولكنَ حُضورَهُم من حيثِ المَضمون لم يكن هادِفاً إلى انتِخابِ رئيسٍ إنما لإجراء بروفَةٍ استِعراضِيَّة لِسدِّ ذرائع المُطالبين بإنجازِ هذا الاستِحقاقِ في موعِده، ولم يَخجل بَعضُهُم بإعرابِه عن ذلكَ علَناً ومن دونِ خَجلٍ أو وجَل، غيرَ آبهين بالمَثلِ القائل “إن بُليتُم بالمَعاصي فاستَتروا”.
إن امتناعَ النُّوابِ عن انتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّةٍ ضمن المهلةِ الدُّستوريَّةِ ينطوي على مَعصِيَةٍ أخلاقيَّةٍ تُخالفُ آدابَ مُزاولةِ النَّائبِ للوكالةِ التي منحَهُ إيَّاها النَّاخِبون، فكيفَ الحالُ إذا كان النُّوابُ مُنتخبون حيدثاً وعلى أثر انتفاضَةٍ شَعبِيَّةٍ عارِمَة، ومُطَّلِعونَ على ما يُعانيهِ الشَّعبُ من أعباءَ مَعيشِيَّة، كما على التَّهديداتِ والمَخاطِرِ المُتنوِّعَةِ والدَّاهِمَةِ المُحدِقَةَ بلبنان وطناً وشَعباً، التي تُنذرُ بعواقِبَ وخيمَةٍ وجودِيّة ومَعيشيَّة.
ليست المَّرَّةَ الأولى والوَحيدةِ التي تشهدُ فيها الحياةُ السِّياسيَّةُ في لبنان تَوجُّهاتٍ تَعطيليَّة، بما في ذلك تعطيلُ استحقاقِ انتخابِ رئيسٍ للجُمهورِيَّة، إذ سبق و شَهِدنا تعطيلاً لهذا الاستِحقاقِ وعانينا من الأمرَّين جرَّاءَ ذلك. أول بوادِرِ تَعطيلِ هذا الاستِحقاقِ كانت عِندَ انتِهاءِ ولايَةِ فخامةِ الرَّئيسِ أمين الجُمَيِّل بتاريخ 21 أيلول عام 1988، إذ بقيت الدَّولة من دون رئيسٍ للجٌمهوريَّةِ حيث تَشاركت حكومتانِ متَعارِضتان مهامُ السُّلطَةِ التَّنفيذيَّةِ بما في ذلك صَلاحيَّاتِ رئيس الجمهوريَّة، الأولى كانت برئاسة دولة الرئيس سليم الحص، أما الثانية فبرئاسة العماد ميشال عون، واستمرَّ الوضعَ على هذه الحالة لغاية 5 تشرين الثاني عام 1989، التَّعطيلُ الثانيَ لهذا الاستِحقاق جاء بعد انتِهاءِ ولايَةِ فخامةِ الرئيس إميل لحود بتاريخ 23/تشرين الثاني عام 2007، حيث أوكلت صلاحيَّاتُ رئيس الجُمهوريَّة إلى مَجلِسِ الوزراء برئاسة دولة الرئيس فؤاد السنيورة الذي تولى مُجتمعاً مَهام السُّلطةِ التَّنفيذيَّة، واستمرَّ الوضع من دون انتِخاب رئيسٍ لغايَةِ انتِخابِ ميشال سليمان رئيساً للجُمهوريَّة بتاريخ 25 أيار عام 2008؛ أما ظاهرة التَّعطيل الثالثة فكانت بعد انتهاء ولاية فخامةِ الرئيس ميشال سليمان بتاريخ 24 أيَّار 2014، حيث تولى أعمال السُّلطة التَّنفيذيَّة بما في ذلك مُمارسَةُ صلاحِيَّاتِ رئيس الجُمهوريَّة مجلس الوزراء برئاسة دولة الرئيس تمام سلام، واستمرت الدَّولة من دون رئيس للجمهوريَّةِ لِحينِ انتِخابِ العِماد ميشال عون بتاريخ 31/تشرين الأول عام 2016. ويبدو أننا في صَددِ مُحاولةٍ تَعطيليَّةٍ رابعةِ بنهايَةِ ولايَةِ فخامَةِ الرَّئيسِ ميشال عون بتارخ 31/تشرين الثاني من العام الحالي، كما يُشيرُ ظاهِرُ أداءِ بعضِ المَرجعيَّاتِ السِّياسيَّة الوازِنَة في لبنان وأداءِ النُّوابِ العاملين بتَوجيهاتِها.
جاءت المُمارساتُ التَّعطيليَّةُ لتُفسِدَ أداءَ هذا الاستِحقاق الوطني، بِجعلِهِ موضِعَ أخذٍ ورد، نتيجةَ تغليبِ المصالِحِ السِّياسيَّةِ الفئويَّةِ والشَّخصيَّةِ على المَصلحةِ العامَّةِ التي توخَّاها المُشرِّعُ، والتي تُستخلصُ من روحيَّةِ الدُّستور، والذي توجِبُ تفسيرَ النًّصوصِ القانونيَّةِ وفق المبدأ القانوني القائلِ “عند غموض النص يُفَسِّرُه القاضي بالمعنى الذي يحدث معه أثراً يكون مُتوافِقاً مع الغَرَضِ منه ومُؤمِّناً التَّناسُقِ بينَهُ وبين النُّصوصِ الأُخرى”، إذ يمعِنُ البعضُ على تأويلِ النُّصوصِ على نحوٍ يعيقُ إنجازَ هذا الاستِحقاقِ في أوانِه وخارِجَ الآليَّةِ التي يُحدِّدها الدُّستور، والتي تُحقِّقُ المُرتجى من هذا الاستِحقاق.
الخطيرُ في الأمرِ هذه المرَّة يكمُنُ في أن مُعظَمَ المَرجَعِيَّاتِ السِّياسيَّةِ في لبنان، وبدلاً من أن تسعى جاهدةً، وفق روحيَّةِ الدستور، إلى انتِخابِ رئيسِ للجُمهوريَّةٍ، تراهُا مُنهَمكةً بكيفيَّةِ إدارَةِ الدَّولَةِ خِلالَ مرحَلةِ الشُّغورِ المُتوقَّعةِ التي ستلي انتهاء ولايَةِ رَئيسِ الجُمهوريَّةِ الحالي، أو بكيفيَّةِ استِغلالِها لمآرِبَ شَخصِيَّة، من دونِ إيلاءِ أيِّ اعتبارٍ لكُلِّ المُناشداتِ الدَّاخليَّةِ والتَّحذيراتِ الخارجيَّة؛ مُتسلِّحةً ببِدَعٍ سِياسِيَّةٍ واجتِهاداتٍ دُستوريَّةٍ باليَةٍ، تقومُ على تأويلِ النُّصوصِ على خِلافِ مَدلولاتِها، وتفسيرِها على خلافِ مَقاصِدها، على نحوٍ يَتعارضُ مع نيَّةِ المُشرِّعِ وروحِيَّةِ النَّصوصِ الدُّستوريَّة.
وبالعودَةِ إلى النُّصوصِ الدُّستوريَّةِ التي تحكُمُ هذا الاستحقاق، لا بدَّ من التَّطرُّقِ أوَّلاً إلى المادة 73 من الدُّستور والتي تنص على : ” قبل موعد انتهاء ولایة رئیس الجمهوریَّة بمدة شهر على الأقل أو شهرین على الأكثر یلتئم المجلس بناء على دعوة من رئیسه لانتخاب الرئیس الجدید وإٕ ذا لم یدع المجلس لهذا الغرض فانه یجتمع حكما في الیوم العاشر الذي یسبق أجل انتهاء ولایة الرئیس”. ويُستدَلُّ من هذا النَّصِّ أنه يتوجَّبُ على مجلِسِ النُّوابِ أن يلتئم قبلَ شهرين على الأكثر وشهر على الأقل من انتهاء ولاية رئيس الجُمهوريَّةِ لانتِخابِ رئيسٍ جديدٍ، ولكن بناءً على دعوةٍ من رئيسِ المَجلِس، وهذا بمثابةِ ضابطِ شَكليٍّ جَوهري، يُملي توجيهَ رئيسِ المجلِسِ دَعوةٍ للنوابِ للإلتِئامِ في جلسةٍ تُخصَّصُ حصراً لانتخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّةِ خلال الفترة المنوه عنها، واستَدركَ المُشرِّعُ احتمالَ تَخلُّفِ رئيسٍ المَجلِسِ عن توجيهِ الدَّعوَةِ للنُّوابِ في موعِدِها، أو احتمالَ تَخلُّفِ المَجلِسِ عن الالتئامِ وانتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّة، فأوجَبَ أن يجتَمِعُ المَجلِسُ حُكماً في اليومِ العاشِرِ الذي يسبقُ أجَلَ انتِهاءِ ولايةِ الرَّئيس. وبهذا يكونُ المُشرِّعُ قد حالَ دون تَعطيلِ هذا الاستِحقاق سواءَ نتيجةَ استِنكافِ رئيسِ المَجلِسِ عن توجيهِ الدَّعوَةِ خلال الفترَةِ المُحدَّدة أم لأيَّةِ عِلَّةٍ أخرى كعدمِ توفُّرِ النَّصاب القانوني لانعقادِ المَجلسِ، أو لإخفاقِ المَجلِسِ في انتخابِ الرئيس قبل حُلولِ العَشرَةِ أيامٍ الأخيرَةِ المنوه عنها.
لم يكتفِ المُشرِّعُ لضمانِ انتِخاب رئيس الجُمهوريَّةِ باعتمادِ قواعِدَ آمرةٍ تدُلُّ على أن هذه المُهمَّةَ واجِبَةٌ دستورياً باعتِمادِه عبارات (يلتئمُ المجلس، يجتمع حُكماً، حالا… )، بل تعمَّدَ حصر صلاحيَةَ مَجلِسِ النُّوابِ بانتِخابِ رئيس للجُمهورِيَّة، وهذا ما يُستدلُّ من نصِّ المادَّة 75 من الدستور، والتي تنصُّ على ما يلي” إن المَجلِسَ المُلتَئِمَ لانتِخاب رئيس للجمهوريَّة يعتبرُ هيئةٍ انتخابيَّةٍ لا هيئة اشتراعيَّة ويترتب عليه الشروع حالاً في انتِخاب رئيس الدَّولة دون مناقشةِ أي عمل آخر”. كما يَتَّضِحُ أن المُشرِّعَ قد جعلَ من مجلِسِ النُّواب هيئةً انتِخابيَّةً مَحصورةٌ مهامُها بانتِخابِ الرَّئيس، وذلك بتعطيلِهِ باقي اختِصاصاتِهِ ليتفرَّغَ حَصراً إلى هذا الواجِبِ الدُّستوري، حاثَّاً إياه على الشُّروعِ بالعمليَّةِ الانتِخابيَّةِ حالَ انعقادِ جلستِهِ الانتِخابيَّة.
لقد حَدَّدَ المُشرِّعُ الدُّستوري أصولاً شَّكليَّةً، اشترطَ تحقُّقَها لِصِحَّةِ انعِقادِ جلساتِ مجلِسِ النُّوابِ عامَّةً، وهذا ما يُستدلُّ من نصِّ المادَّة 34 من الدستور والتي تنص على: “لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبيَّةِ الأصوات وإذا تعادلت الأصوات سقط المشروع المطروح للمناقشة”؛ وبذلكَ يكونُ المُشرِّعُ الدستوري قد أوجبَ توفُّرَ نوعين من الأصول الشَّكليَّة، هما توفُّرُ النِّصابِ القانوني، والتَّصويت بغالِبِيَّةٍ مُحدَّدَة؛ ويضافُ إلى ذلك أن تكونَ جلساتُه علنيَّةً ما لم تطلُبُ الحكومةُ أو خمسةٍ من أعضائهِ إجراءها بسِريَّةِ، مع احتفاظِ المجلِسِ بإعادةِ المُناقَشَةِ علنيَّة في الموضوع ذاته، وهذا ما يُستدل من نصِّ المادَّة 35 من الدستور والتي تنص على” جلسات المجلس علنیة على أن له أن یجتمع في جلسة سریة بناءً على طلب الحكومة أو خمسة من أعضائه وله أن یقرر إعادة المناقشة في جلسة علنیة في المبحث نفسه“.
كما حدَّدَ أصولاً شَكلِيَّةً أُخرى تُضافُ إلى ما سَبَقَ وأشرنا إليه، تتعلَّقُ بكيفِيَّةِ تعبيرِ النُّواب عن مواقِفِهم سلباً أو إيجاباً تجاه المسائل المطروحةِ داخِلَ الجلساتِ، فأوجَب أن يكون التَّصويت حُضوريَّا وبالكيفيَّةِ المُحدَّدَةِ في إدلاءِ النُّوابِ بأصواتِهم، وهذا ما أكدت عليه المادَّة 45 من الدُّستور والتي تنص على :”ليس لأعضاء المجلس حق الاقتراع ما لم يكونوا حاضرين في الجَلسَةِ ولا يَجوزُ التَّصويت وكالة”، كذلكَ حدَّدَ الدُستورُ آليَّاتٍ شكليَّةٍ في إعراب النُّوابِ عن آرائهم بالتَّصويت الشفوي أو بطريقةِ القيام والجلوس، وفي ما يخَصُّ التًصويتُ على القوانينِ عُموماً والاقتراعِ على مسألةِ الثقة فأوجَبَ أن تَتِمَّ بالمُناداةُ على الأعضاءِ بأسمائهِم، أمَّا الإنتخابُ فأوجبَ أن تُعطى الآراءُ بطريقةِ الاقتراع السِّري، وهذه أصول دستوريَّةٌ شكليَّةٌ مُحدَّدٌ بوضوح في متن المادة 36 من الدستور، وأي إجراء يتمُّ على خِلافِ ما هو مُحدَّدُ يُعتبرُ باطِلاً بُطلاناً مُطلَقاً لكونِها أصولاً شكليَّةً تتعلَّقُ بأُمورٍ جَوهَرِيَّة.
ونظراً لأهميَّةِ بعضِ الاستِحقاقاتِ أو المَسائلِ الهامَّةِ المُناطةِ بالمَجلِسٍ النِّيابي، أوجَبَ المُشرِّعُ إقرارَها بأكثريَّةٍ تحتَسبُ من عددِ النُّوابِ (أي عدد المقاعد) لا بغالبيَّةِ عدد الأصوات، تنوّعت هذه الأكثريَّاتُ ما بين أكثريَّةٍ عاديَّة، وأكثريَّةٍ مُطلَقَة، وأكثريَّةٍ موصوفة. من تلك الأمورِ الهامَّةِ: اقتراحُ تَعديلاتٍ دُستورِيَّةٍ أو إقرارُها (المادتان 76 و77)، اتِّهامُ رئيس الجمهوريَّة (المادة 60) ، أو أتِّهامُ الرؤساء والوزراء (المادة 70)، انتِخابُ رئيسِ للجُمهوريَّة، وهذا ما يمكنُ استِخلاصُهُ من نصِّ المادَّة 49 من الدستور، إلاَّ أنه لم يرد في الدُّستورَ أيِّ نصِّ يُحدِّدُ نِصاباً خاصَّاً لانعقادِ الجَلساتِ المُخصَّصةِ للبتِّ بأيٍّ من هذه المواضيعِ الهامَّة، وعليه يكون المُشرِّعُ قد فَصَلَ ما بين أُصولٍ شَكليَّةٍ خاصَّةٍ بالنِّصابِ المَطلوبِ لصِحَّةِ انعِقادِ الجَلسات، وأصولٍ شَكليَّةٍ ذاتُ علاقةٍ بكيفيَّةِ التَّصويت، وثالثةٌ ترتبِطُ بعددَ الأصواتِ المَطلوبَةِ للتَّصويتِ على اتِّخاذِ القَراراتِ أو إقرارِ القَوانين، أو الانتخاب.
وبالعودةِ إلى نصِّ المادة 49 المشارِ إليها نرى أن المُشرِّعَ تعمَّدَ في فقرتِها الأولى التَّأكَّيدَ على رَمزيَّةِ مركزِ رئاسةِ الجُمهوريَّةِ مُشِيراً إلى أهمِّ المهامِ المُناطَةِ به، ومن ثُمَّ تَطرَّقَ إلى انتِخابِ الرَّئيسِ في الفقرةِ الثانيَةِ منها، بحيثُ نَصَّت على:” ينتخب رئیس الجمهوریة بالاقتراع السري بغالبیة الثلثین من مجلس النواب في الدورة الأولى، ویكتفي بالغالبیة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي…الخ” أما فقرتُها الثالثةُ فحدَّدَت حصريَّاً الموانِع التي تحولُ دونَ انتخابِ شخصٍ ما لهذا المنصب :” كما انه لا یجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة …الخ”. وفيما لو أضفنا مضمون هذه المادَّة إلى مضمونِ المادَّةِ 73 من الدستور التي سبقَ وأشرنا إليها لنَرى أن المُشرِّعَ قد حدَّدَ الكيفيَّةَ الواجِبِ اعتِمادُها في انتِخابِ رئيسِ الجُمهوريَّة، في إطارٍ مُتكامِلٍ، كما حدَّدَ الأصول الشَكلِيَّةٍ التي ينبغي الإلتزامُ بها، على أن تُحصَرَ الخياراتُ بمنتتوفَّرَ فيهم المؤهلاتُ والشُّروطُ المنصوصُ عليها في المادَّة 49 من الدستور وعدمِ وجودِ أيٍّ من المَوانِعِ التي تحول دون ذلك.
ونخلُصُ من كلِّ ما عرضناه للقولِ بأن المُشرِّعَ الدُّستوري قد حدَّدَ النِّصاب المطلوبَ لِصِحَّةِ انعِقادِ الجَلساتِ المُخصَّصَةِ لانتِخابِ ريئس للجمهوريَّة، وهو ذاتُ النِّصابِ المُعتَمَدِ لقانونِيَّةِ انعِقادِ كافَّةِ الجَلَساتِ أي الأكثريَّةِ المُطلَقَةِ، أي ما يَزيدُ عن نِصفِ عَددِ أعضاءِ المَجلِسِ الحالي (تطلُّبُ حضور 65 نائباً على الأقل)، وذلك بغضِّ النَّظرِ عن الأكثريَّة المطلوبَةِ لانتِخابِ الرَّئيسِ، والتي يُفترَضُ أن تتمَّ بغالبيَّةِ الثلثين في دَورةِ الإقتراعِ الأولى (86 صوتاً)، والغالبيَّةِ المُطلَقَةِ في باقي دوراتِ الاقتراع (أي 65 صوتا). والقولُ بغيرِ ذلك ينطوي على تَعطيلٍ لهذا الاستِحقاقِ بمُجرَّدِ امتناعِ أقلِّيَّةِ تزيدُ ولو بنائبٍ واحِدٍ عن ثُلثِ أعضاءِ مَجلِسِ النُّواب (34 وما فوق) عن حُضورِ الجلساتِ المُخَصَّصةِ لانتخاب الرئيس، وتغليبٍ لها على أيَّةِ أكثريَّةٍ تقِلُّ عن ثُلثَي مَجموعِ عَدَدِ النُّواب، وهذا مُخالِفُ لأهَمِّ مُرتَكزاتِ الدِّيمقراطِيَّة.
ويبقى التَّساؤلُ عن الآليَّةِ الواجِبِ اعتِمادُها في حالِ لم يُدع المَجلِسُ للإنعقادِ خِلالَ الفترةِ المُحدَّدة لانتِخاب الرئيس (شهرين على الأكثر وشهر على الأقل)، هذا ما دفعَ بالمُشرِّعُ لاعتبارِ المَجلِسِ مُنعقِدِاً حُكما بصورَةٍ قانونيَّةٍ اعتِباراً من اليومِ العاشِرِ الذي يَسبقُ أجلَ انتهاءِ ولايةِ الرَّئيس، ولو من دونِ تَوَفُّرِ شَرطِ النَّصابِ المَطلوب، وعلى المَجلِسِ المُباشرةِ بدوراتِ الاقتراعِ فإمَّا أن ينتَخِبَ الرئيس بنتيجَةِ دورةِ الاقتراع الأولى بغالبيَّةٍ موصوفَةٍ أي بنيلِهِ ثلثي أصوات أعضاءِ المَجلِسِ (86 صوتاً أو ما يَزيد)، أو بدورَةِ اقتِراعٍ لاحِقَةٍ بغالبِيَّةٍ مُطلَقَةٍ أي بنيلِهِ ما يزيدُ عن نِصفِ أصواتِ أعضاء المجلس النيابي(65) صوتا أو ما يزيد، وتستمِرُّ الجلسةُ مَفتوحَةً ولحينَ انتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّةِ ولو حصلَ ذلكَ بعد استِنفاذِ العَشرَةِ أيام، وانتهاء ولايَةِ الرَّئيس.
إن ما أشرنا إليهِ هو يوضِّحُ الإطارَ العَمليَّ لانتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّة، كونه يُحاكي روحيَّةَ النًّوصِ الدستوريَّةِ الناظِمَةِ لهذا الإستحقاق الوطني، والإلتزامُ بآليَّاتِه وفقاً لما بيَّناه وحدَهُ كَفيلٌ بضمانِ إجرائه ضِمنَ المُهلَةِ الدُّستورِيَّة، وأيُّ قولٍ بغيرِ ذلكَ بمثابةِ بِدعَةٍ على شاكلةِ بدعةِ الثُّلث الضَّامِنِ الذي عطَّلَ الحُكومات التَّوافقيَّة، ويَنطَوي على مَخالَفَةِ فاضِحَةٍ لروحِيَّةِ النُّصوصِ الدُّستوريَّة، ويخرُجُ عن منهجيَّةِ التَّفسيرِ الصَّحيحِ للنُّصوصِ القانونيَّة، كونه يُشكِّلُ إضافةً غير ملحوظَةٍ على نصِّ المادّة /49/ تُحدِّدُ نِصاباً افتِراضِيَّاً يَتَعارَضُ مع حرفيَّةِ ما ينصُّ عليه الدُّستور، كما يَنطوي على مُخالَفَةٍ لمَنهَجِيَّةِ تَفسيرِ النًّصوصِ القانونيَّةِ وللمَبادئ الدِّيمقراطِيَّةِ النَّاظِمَةِ لِسَيرِ العَمَلِ في النُّظُمِ الدِّمقراطيَّة.