أمضى اللبنانيون أشهرًا طويلة وهم يطرحون الأسئلة بشأن الانتخابات النيابية، وترجيح الاحتمالات بين أن تحصل أو لا تحصل، لسبب أو لآخر. وكيف أنّ اللبنانيين كلهم تقريبًا تحوّلوا إلى خبراء انتخابيين بعضهم عن علم وخبرة وبعضهم الآخر على سبيل الهواية، يتجادلون في الأرقام والحواصل والأصوات التفضيلية ويحسمون النتائج بشكل نهائي وقاطع، علمًا أنّ الحسم ممكن إلى حدّ كبير في دوائر عدة، حتى أنّ البعض يسمّي منذ الآن نحو 100 نائب تمّ حسم نجاحهم لتبقى المعارك الانتخابية تدور حول مقعد أو اثنين في بعض الدوائر الانتخابية، والتي لا يتخطى مجموعها الثلاثين مقعدًا.
لا بأس، سننتظر أسبوعًا إضافيًا لكي نعرف مَن من هؤلاء “الخبراء” كانت توقعاته دقيقة أو أقرب إلى الدقة، ومَن هم الهواة في هذا “الكار”، ومَن هم الذين كانوا “يكبّون” الأرقام في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل غايات معينة بهدف التأثير على المواطنين المتردّدين في حسم خياراتهم، من أجل حسمها في هذا الاتجاه أو ذاك.
ومع بدء العملية الانتخابية في الخارج، والتي تمّت يومي الجمعة والأحد الماضيين، انتهى كليًا الجدل السابق بشأن احتمالات التأجيل، وبات النقاش يتمحور حول ما سيحصل في اليوم الذي سيلي الانتخابات، بعدما تكون النتائج قد حُسمت نهائيًا، وماذا سيتغيّر في حياة اللبنانيين الذين يعانون كثيرًا من الأزمات المتعدّدة والمتراكمة والتي تزداد عليهم قساوة وشدة في كلّ المجالات.
طبعًا يهتمّ عدد كبير من الناس بالنتائج السياسية للانتخابات، خاصة لجهة الاطمئنان إلى استمرار معادلة القوّة التي حمَت لبنان وشعبه وأرضه، ولا تزال تمثل حاجة وطنية ماسّة كونها تجعل لبنان موجودًا ومشاركًا في رسم المعادلات الجديدة في المنطقة، وكونها أيضًا قادرة على حفظ الاستقرار الداخلي الذي من دونه لا يمكن التفكير بأية حلول مالية واقتصادية واجتماعية.
على أنّ هذه الحلول مطلوبة بإلحاح بعد انتهاء الانتخابات، إذ وصلت الأزمة إلى مرحلة لم يعد ممكنًا ولا بأيّ شكل تأجيل الحلول، خاصة تلك التي تلامس الحياة اليومية للمواطنين مثل الخبز والدواء والمحروقات والكهرباء والماء وغير ذلك من أساسيات لا غنى عنها.
ولا يُخفى أنّ هناك إمكانية لأن تتعقّد الأمور بعد الانتخابات، خاصة على صعيد سعر صرف الدولار الأميركي، لأنّ الاتفاق الذي حصل بين رئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان مطلع العام الحالي كان يقضي بأن يضخّ “الحاكم” حوالى مليار دولار أو أكثر إذا اقتضى الأمر لتهدئة سعر الصرف عند حدود معينة حتى تمرّ الانتخابات النيابية، وها هي هذه الفترة تنتهي بعد أيام ولا عجب إذا عاد الدولار الأميركي إلى القفز صعودًا، لا سيما أنّ المصرف المركزي استنفد أو يكاد كلّ ما لديه من احتياطي هو أصلًا ملك المودعين، لكن درجت العادة على المسّ بالودائع ولا فرق بين احتياطي إلزامي أو غيره، فمَن صرف وأهدر أكثر من مئة مليار دولار من الودائع وفوقها مئة أخرى من الدين العام وقبلها ومعها حوالى 300 مليار دولار هي مداخيل الخزينة العامة منذ ثلاثة عقود، مًن فعل كلّ ذلك لن يقف عند 10 أو 11 مليار دولار قال رئيس الحكومة الأسبوع الماضي إنها لا تزال موجودة في مصرف لبنان.
وفضلًا عن سعر الصرف الذي قد يتصاعد مجدّدًا، هناك أسعار البنزين التي قد تلتهب أيضًا لأنّ المصرف المركزي بعدما توقف كليًا الدعم على مادة المازوت، لن يبقى قادرًا على تأمين الـ 15% من الدولارات التي تحتاجها الشركات المستوردة للبنزين، وبالتالي سنشهد ارتفاعًا إضافيًا كبيرًا في سعر صفيحة البنزين. وهذا ما ينطبق أيضًا على القمح الذي لا يزال مدعومًا، وغير معروف إلى أيّ حدّ سيستطيع “الحاكم” تأمين الدولارات لاستيراد ما يحتاجه لبنان من القمح.
علينا أن نتوقع تفاقم الأزمات بعد الانتخابات، وذلك في إطار الضغوط الخارجية على لبنان وشعبه لتمرير الأهداف المبتغاة في ملف الترسيم البحري جنوبًا وغير ذلك من مطالب وشروط جرى التلويح بها حين أبلغ البنك الدولي وزير الطاقة الصديق الدكتور وليد فياض أنه لا يزال يدرس “الجدوى السياسية” لتمويل شراء الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، وهو الملف المتشعّب الذي أنجز الوزير كلّ ما يلزمه من أمور تقنية وتوقيع العقود اللازمة من أجل ذلك.
هذا بالإضافة إلى “اللا جواب” من البنك الدولي بشأن المخطط الشامل للنقل العام، وأيضًا موقف البنك نفسه من تمويل جزء كبير من عمليات استيراد القمح وتنويع مصادره.
أمام هذا الاستعصاء لا بدّ للأكثرية المقبلة في المجلس النيابي الجديد، والتي من الطبيعي أن تعكس نفسها في الحكومة الجديدة المفترض تشكيلها مع انطلاقة ولاية مجلس النواب، إلا إذا ارتأى المعنيون استمرار الحكومة الحالية بتصريف الأعمال حتى موعد الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل… في الحالتين لا بدّ للأكثرية من أن تحسم الأمور وتتخذ القرارات الشجاعة بقبول العروض السخية من روسيا وإيران والصين، والتي من خلالها نستطيع البدء بتحقيق الحلول المطلوبة للأزمات المختلفة في قطاعاتنا الاقتصادية الحيوية مثل الكهرباء والقمح والدواء والمحروقات والمواصلات وغير ذلك من المشاريع الهامة المنتجة التي لا خيار غيرها لإحياء اقتصادنا الوطني…