مقاربة تقييمية نقدية للانتخابات النيابية | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مما لا شك فيه ان الانتخابات النيابية بنتائجها قد شكَّلت مُفاجأة صادمةُ لكل المُهتمين بها سَواءَ أكانوا مَعنيين بها بصورةٍ مُباشِرة أو غير مُباشِرَةٍ او مُتابعين، سيَّان كانوا من داخِلِ البلادِ أم من خارِجَها، دولٌ أو هيئاتٌ أم أفرادَ مواطنين أم غيرِ مواطنين، عرب او عجم…
ما كان لهذه النتائجِ غيرِ المُتوقَّعةِ التي تمخَّضت عنها هذه الانتخاباتِ أن تَحصلَ لولا عُزوفِ رئيسِ تيَّارِ المُستقبلِ، دولة الرئيس سعد الحريري، عن المُشاركَةِ فيها ودعوتهِ انصارِهِ ومُحازبيهِ ومُناصِريهِ لمُجاراتِهِ بالامتِناعِ عن المُشاركةِ ترشُّحاً واقتِراعا، والذي أحدثَ فراغا سياسيَّاً أثارَ شهيَّةَ بعضِ رُموزِ السُّلطةِ كما القِوى التَّغييريَّةِ وسهَّلَ عليهم إمكانيَّةَ تعبئةِ بعضٍ من الفراغِ المُشارِ إليهِ لتَحسينِ مواقِعهم في النَّدوةِ البرلمانيَّة.
وتقتضي الموضوعيَّةُ منا التَّنويهُ بالدَّورِ الهامِّ الذي لعبَهُ الإعلامُ اللبنانيُّ عامَّةً، وبخاصَّة المَرئي والمَسموعِ ووسائطِ التواصلِ الاجتِماعي في نَشر التَّوعيَةِ السِّياسِيَّةِ وتَسليطِ الضَّوءِ على سوءِ أداءِ وارتِكاباتِ القوى المُشاركةِ في السُّلطةِ منذ ثلاثةِ عُقود، وأخصُّ بالذِّكرِ مَحطَّةِ الـ (MTV ) التي لعِبَت دورا رياديَّا في هذا المَجالِ سَواءَ في إطارِ نشرِ الوَعي السِّياسيِّ أو تعريَةِ مُكوِّناتِ السُّلطة، وإن يكن جَهدُها الأساسيُّ قد انصبَّ على تَحضيرِ الارضِيةِ المُلائمَةِ لبَعضِ الرُّموز التَّغييريَّةِ ممن يُطلقونَ على انفُسِهِم القاباً ثوريَّةً او تَغييريَّةً، بحيث مَكنتهُم البرامجُ التي سخِّرت لهذا الغرضِ من التعبيرِ عن آرائهم حيالَ المسائلِ المطروحةِ، كما إيصالِ اصواتِهم وافكارِهم للشَّعبِ على نحوٍ مُؤثِّرٍ ومُعبِّر، وعليه أقولُ أنَّها استَحقَّت بامتيازٍ لقبَ صانِعةِ الثَّورة او حاضنتُها الإعلاميَّة.
ومن بين الصَّحافَة المَكتوبَةِ أخصُّ بالذِّكرِ جريدةَ اللواء المتميِّزةِ بخطابها المعتدلِ والمسؤول، والتي كرَّسَت مُعظم صَفَحاتِها لمُتابَعةِ المُستجداتِ اليوميَّةِ، وفي الوقتِ عينِه خصَّصت حيزاً واسِعا من أعمدتها لنَشرِ المَقالاتِ السِّياسِيَّةِ النقديَّةِ التَّحليليَّةِ المُعمَّقةِ، واتاحَت المَجالَ واسِعا أمامَ رِجالِ الفِكرِ والمُحلِّلين من غير الصُّحفيين المتخصصين في مَجالاتِ شتى لتتمَ بذلك الاحاطةُ بالمُستجداتِ والمسائل المطروحةِ من مختلفِ الأوجُه.
هذا في العواملِ التي أدَّت إلى ما أسفرَت عنه نتائجُ الانتخابات، ولكن ماذا بالنِّسبةِ للمُلاحَظاتِ التي رُصدت خلال إجراء العمليَّةِ الانتخابيَّةِ، والعِبر التي ينبغي استقاؤها منها؟
اول ما يَسترعي المراقبَ في هذه الانتخاباتِ قلقُ جميع القوى السِّياسيَّة وتهيُّبِها منذ أن حًدِّدَ موعدٌ لإجراءِ الانتخابات، التوجًّسِ مما قد يَخلصُ إليه هذا الاستحقاق الانتخابي من نتائج، وتعاملت معه على هذا الأساس، مكرِّسة جُلَّ جُهدَها في سبيل حَصد أكبر قدرِ ممكنِ من الأصواتِ والمقاعدِ النيابية غبر آبهَةٍ بنزاهة الانتخاباتِ وشفافيتها كما بحُسن تمرير الاستِحقاقِ سياسيا وأمنيَّا.
وَحدَهُما رئاسةُ الحُكومةِ ووزارَةِ الدَّاخليَّةُ أخذتا على عاتقهما مسألة تمريرِ هذا الاستِحقاقِ بسَلاسَة وشَفافيَةٍ وبأقلِّ تكلفَةٍ ماديَّةٍ مُمكنة في ظل ظروف أمنيَّةٍ وماليَّةٍ في غايةِ الحَساسِيَّة، وعليه بذلَ وزير الدَّاخليَّة فيصل المولوي والفريق المعاون له جهدا يستحقُّون الشكرَ والتَّقديرَ عليهِ، من دون إغفال التنويهِ بالقوى العَسكريَّةِ والامنيَّةِ على الجُهودِ التي بذلت على كافة المستويات التنظيميَّةِ والعَملانيَّة.
ولكن على الرغم من الجُهودِ التي بذلت يؤخذُ على هذه الانتِخابات اعتمادُ بعضِ القوى المُشاركةِ فيها لغةَ العُنفِ وَسيلةً لإكراهِ الخُصومِ او المنافسينَ وترويعِهِم لدفعِهم على عدمِ خوضِ غمار هذه الانتِخاباتِ او لتفويتِ الفُرَصِ عليهم من تحقيقِ نتائجَ تُهدِّد مَصالِحَهم وأغراضهُم الانتخابيَّةِ والسِّياسِيَّة عامَّة. من ذلك الحِرصُ على حصرِ تمثيلِ إحدى الطوائفِ بمَكوِّنٍ دون غيرِه لضَمانِ عَدمِ وجودِ مُرَشحينَ مًنافِسين وفق التركيبة المذهبيَّةِ على مركزٍ دُستوري أساسي، او الضَّغطِ على مُرشَّحينَ او التعرُّضُ لهُم جَسدِيَّا او تهديدَهُم لدَفعهُم مُكرَهين على سَحبِ ترشيحاتِهِم او العُزوفِ عن المُتابعَة في ترشُّحِهِم، بالإضافةِ إلى التَّضييقِ على اللوائحِ كما المُرشَّحينَ ومنعَهًم عُنوَة من القِيامِ بنشاطاتهِم الانتخابيَّةِ في الدَّوائرِ الانتخابيَّةِ التي ترشحوا عنها، بحيث لم يسمح لمرشَّح شيعي واحدٍ من خارجي لوائحِ الثنائي الشبعي من الفوز بمقعده، لتفويت فرصِ المناورة على الخصوم في السلطة ام التعبيريين.
وفي هذا الاطارِ يمكن إحصاءً مئاتِ الارتكاباتِ التي لو حَصَلت في بلادٍ يُحتكمُ فيها للقانونِ والمبادئ الديمقراطيَّةِ التي تُكرِّسُ وتضمنُ مُمارَسَةَ الحُقوقِ السِّياسِيَّةِ عامَّة والانتِخابيَّةِ بخاصَّةٍ لأدَّى أي منها لإبطالِ نتائجِ الانتخاباتِ لكونها مشوبةٌ بواحدةٍ من تلك العُيوب.
اما في العُموميَّاتِ فيلاحَظُ ما يلي:
تراجُعٌ ملحوظٌ في موقع الطائفَةِ السُّنيَّة وتخلُّفِها عن دورِها كمكوِّن أساسي بل الأكثر عددٍ بين المُكونات الوَطنيَّة، وافتقادِها لقيادَةِ جامِعةٍ او مؤثِّرة في الحياة السِّياسيَّة. في حين غلبَ مَنطِقُ ثُنائيَّةِ التمثيلِ لدى الطَّوائفِ الأخرى.
تولدُ شعورٍ بالاستهدافِ لدى المسؤولين السياسيين في الطائفة الشيعيَّةِ الكريمة، الأمر الذي انعكسِ مزيدٍا من التَّزمُّتِ والتَّصلُّبِ في المواقِفِ والتَّصلَّبِ في المواقفِ السِّياسِيَّةِ وكمِّ الافواهِ لدى البيئة المذهبية التي تحتضنُها، واعتمادُ خطابٍ حَدٍّي تجاهَ باقي المُكوناتِ الوَطنيَّةِ إلى حَدٍّ يجعلُ منها مُكوِّنا يُغرِّدُ خارِجَ إطارِ الأسرابِ الوَطنِيَّة.
تكريسُ الانشِقاقِ العامودي الحادِّ داخلَ الطائفة المسيحيَّةِ وتكريسِ هيمينةِ أحدِ مذاهبها على المذاهبِ الأخرى، على خِلافِ ما هو الحالُ لدى مذاهبِ الطائفةِ الإسلاميَّة، أما الجديدً فانخفاض مُعدَّلِ التأييدِ داخلِ البيئةِ الحاضنةِ لهما من طَرفٍ إلى طرفٍ آخر في موقفٍ مناقضٍ، تعبيرا عن رفضِ الانسياق في توجُّهاتٍ سياسيَّةٍ إقليميَّةٍ، متجاوزة للهومِ والتطلعاتِ الوطنيَّة.
ويُضافُ آلى تلك العُيوبِ ِالإكراهيَّةِ المَعنويَّةِ والماديَّةِ عُيوبٌ أخرى لا تَقِلُّ عنها خطورَةً كونها تُفسِدُ إرادَةَ الناخِبِينَ، وأعني بذلك الرَّشاوى الانتِخابيَّةِ المُباشِرَة او غيرِ المُباشرَة، سواء حَصلت جَهارَةً أم بتستُّر، من ذلك توزيعُ المَرجَعيَّاتِ السِّياسيَّةِ والمرشَّحين المُساعداتِ الماليَّةِ او العينيَّةِ او تقديم الخَدماتِ من قبل المَرجعياتِ السياسيُة والمُرشحين للناخبين إفرادِيا او جَماعِيَّا، كتوزيعِ حُصَصٍ غذائيَّةٍ او اموال نقديَّةٍ او توظيفٍ سياسي، او تنفيعاتٍ شخصيَّةٍ آنيَّة، او توزيع مَحروقاتٍ لمولدات الكهرباء او آبار المياه لبعض المناطق والقرى ….الخ والتي تندرج ضمن إطار الرشى الانتخابيَّة بغض النظر عن الفترةِ الزمنيةِ الفاصلةِ عن مواعيدِ الانتخابات، فكيف الحالُ إذا جاءَت على ضَوء استغلال انعكاساتِ الوَضعين الاقتِصادي والمالي، والضَّائقة المَعيشيُةِ التي يُعاني منها الافرادُ!!! وكُلها تندرِجُ وفق التَّوصيفِ القانوني ضِمن إطارِ الرَّشوةِ والتي تؤثرُ سليا على إرادَة الناخِبِ وتحدُّ من هامشِ حُرية التَّصرُّفِ لديه، وتدفعُهُ لاعتمادِ خياراتٍ قد لا تتَّفِقُ مع قناعاتهِ وتطلُّعاته السِّياسِيَّة، وهذه الرَّشاوى لو حَصلت في معرضِ انتخاباتٍ في دَولةٍ تتمتعُ بمُمارسَةٍ ديمقراطيَّةٍ حقيقيَّةٍ لأدَّت إلى إبطالِ انتخابِ العديدِ من الفائزين.
أما ما يستدعي استقاؤه من دروسٍ وعبر فنُشيرُ إلى الأمورِ المهمة التَّالية:
– عدمُ الاستِقواءِ بالسِّلاحِ واعتِمادِ لُغةٍ حديديَّةٍ فوقيَّةٍ جامِدَة، حيث تبين أن المِزاج الشَّعبي يرفُضُ لغةَ الاستِقواءِ من خِلالِ إسقاطِ حلفاء حزبِ الله الذين كانوا يستقوون بسوريَة حينا وبالحزبِ حينا آخر.
– إن الخطاباتِ الحادَّة تدفعُ لتبني مواقفَ حادَّة، لذا وجِبَ التَّخلي فورا عن خِطابات الكراهيَّة والتَّعنصُر وكل أشكال التزمُّت الطائفيَّ والمَذهبيَّةِ وايلاء الاهتمامِ اللازمِ بالأوضاعِ السِّياسِيَّةِ والاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والنَّقديَّةِ والمَعيشيَّةِ، وتخلي مُختلفِ المُكوناتِ السِّياسِيَّةِ والأحزاب السِّياسِيَّةِ عن سُلوكيَّاتِ وادبيَّاتِ التَّهديدِ والوَعيدِ والتَّخوينِ وكافَّةِ أشكالِ التَّنمُّرِ وصور المُماحكاتِ والمُناكفاتِ التَّعطيليَّةِ والتي تندرجُ في إطارِ الابتزازِ السِّياسي.
– خطورة الممارساتِ التَّعطيليَّةِ على الوطن وابنواطن وبابتالي وجوب المبادرةِ فورا إلى استكمالِ الاستحقاقاتِ الدُّستوريَّةِ وفي طليعتها انتخابُ رئيسٍ لمجلسِ النُّوابِ وتشكيلِ هيئةِ المجلسِ والدعوةِ لاستشاراتٍ نيابيًّةٍ مُلزِمةٍ وتشكيلِ حكومةِ إنقاذ وطني، يكون في صدارةِ أولويَّاتِها إقرار خطة نهوض وتعافي اقتصادية مالية نقدية معيشيَّ خلال فترة لا تتجاوزُ الشَّهرين.
– فشلُ المقارباتِ الجزئيَّة والقراراتِ المرتجلةِ ووجوبِ اعتمادِ برامجَ متكاملةٍ تتضمنُ جُملةٍ من التدابيرِ والاجراءاتِ التي من شأن تبنيها وتطبيقها لجم الانهيارِ الاقتصادي والمالي والنَّقدي.
– رفض الشعبِ االبناني بكليَّتهِ للسياساتِ الترقيعيَّة وإقرار وتبني حلول على حسابِ الطبقاتِ الفقيرةِ وصغار المدعين، ووجبِ العمل على اصدارِ قانونٍ يضمنُ للمودعين في المصارفِ ودائعهم أيا يكن مِقدارها، باعتبارها حقا يكرِّسُهُ الدستور، وذلك بعيدا عن أيَّةِ مقارباتٍ تقومُ على الاقتِطاعِ منها (hair cut).
– عدم تساهلِ الشعبِ مع كبارِ الفاسدين والمختلسين، وبالتالي ينبغي العملُ على إقرار قوانين تضمن مُحاسبة الفاسدين والمتلاعبين في الاسواقِ الماليَّةِ المَحليَّةِ والمُضارَبَةِ على العملةِ الوطنيةِ والعملِ على إقرار قوانين توجبِ بل تُلزِمُ المصارفَ وكبارَ المتمولين اعادة الاموال التي هربوها للخارج.
– خطورة التماهي في انتهاك النصوصِ الدُّستوريَّة، كما وجود نصوص دستوريَّة غبر قابلةٍ للتَّطبيق او لم تعُد مُلائمة، بحيث يتوجَّبُ العملَ على تشكيلِ لجنةٍ برلمانيَّةٍ تعنى بإعدادِ مسودَّةِ إصلاحاتٍ دستوريَّةٍ بما يراعي روحيَّة اتفاقِ الطائفِ، من شأنها ضمانُ استمرارية عمل المؤسسات الدستوريَّةِ وعدمِ تعطيلها، وتشذيبِ نصوصِ الموادِ الدستورية من أية تعابير مُلتبسةِ المَعنى، او غير قابلةٍ للتَّطبيق.
– مخاطرَ تعطيلِ او شلِّ عملِ المؤسساتِ الدستوريَّة الأمرُ الذي يوجبُ توخي الحرصَ على ضَمانِ حسنِ سَيرِ العمل في المؤسَّسات الدستوريَّة، وبذل كُل جُهدٍ مَطلوبٍ في سبيلِ النُّهوضِ بالوَطنِ سِياسيَّا واقتصاديَّا وماليَّا واجتماعيا وتربويا.
– خطورةُ الفراغِ في المراكزِ الدستوريَّة، لذا ينبغي العملُ فورا على انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّةِ على إقرارِ قانونِ انتخاباتٍ تسريعيّةٍ مُتجردٍ وفق روحيَّةِ اتفاقِ الطَّائف، يلحظُ انتخابَ مجلسين تشريعيين يكمل بعضهما بعضا، الأول مجاس شيوخ تراعى في تشكيله الجوانِبُ الطائفيَّةُ والمذهبيَّة، يعنى بالأمور التي تتطلَّبُ توافقا ميثاقيَّا طائفيا، والآخرُ ينتخب على أساس لا طائفي يعنى بالتَّشريعِ في الأمورِ العاديَّةِ طما في الدور الرَّقابي للسَّلطةِ التَّنفيذيَّة. يكرسً ويضمنُ المُساواةَ بين جميعِ المُرشحين.
– ضعفُ مستوى الشعور بالانتماء الوطني، لذا ينبغي العملُ على تثقيفِ أفرادِ المُجتمعِ لتقديمِ الاعتباراتِ الوطنيَّةِ على أية اعتباراتٍ أخرى، والعمل على تكريس مقومات الانتماءِ الوطني بكل أبعادِه.