ازمة لبنانالاحدث
أَول صحيفة في لبنان قبل 200 سنة | بقلم هنري زغيب
فيما لبنانُ السياسي والأَمني يغوصُ تحت وابلٍ من الأَصوات المتضادَّة والأَصداء المتعاكسة حول ما يجري وما قد يجري وكيف يجري ومتى يجري، يواصل لبنان الإِبداعي طريقه إِلى إِثبات ما في لبنان من كنوز ثقافية وأَدبية وحضارية وتاريخية، مؤَكِّدًا أَنَّ الأَوقات السياسية والأَمنية والعسكرية متغيِّرة وزائلة وراهنة تنطفئُ حينًا بعد حين، وأَنَّ الأَوقات الإِبداعية والأَكاديمية والعلْمية والثقافية ثابتةٌ دائمةٌ وتَغْنى حينًا بعد حين.
من تلك الثوابت: فيما كان سائدًا للأَوساط الأَكاديمية والعلْمية أَنَّ أَول جريدة دورية في لبنان هي “حديقة الأَخبار” (أَصدرها خليل الخوري سنة 1858) جاء مَن يُثْبِتُ أَنْ: لا، ليسَت تلك هي الدوريةَ الأُولى بل دوريةٌ سبقَتْها بــ38 سنة، صدَرت سنة 1820.
هذه اللذاذات العلْمية يعرفُها ذووها ويتذوَّقون منها فرحَ الاكتشاف، كما يَفرح باكتشافه أَيُّ عالِم في مختبره أَو مكتبه أَو محترفه. وهذا ما حمله لنا البحاثة الجَلُود الدكتور هيام جورج ملَّاط في اكتشافه الجديد “1820- صدور أَوَّل دورية في لبنان”، نشَرَه كُتَيِّبًا في ثلاث لغات لدى منشورات درغام من 96 صفحة حجمًا صغيرًا في طباعة موثَّقة أَنيقة.
المطبوعة الدورية المعنيَّة هي “ناسك جبل لبنان”، أَقدمُ ما صدَر ووُثِّقَ في الشرقَيْن الأَوسط والأَدنى (بعدما كانت مطبوعات حملة بونابارت انقرضت بانتهاء الحملة النابوليونية سنة 1801). ودليلُ هيام ملَّاط إِلى اكتشافه: عبارةٌ للكاتب الفْرنسي جيرار دو نرفال De Nerval في كتابه “رحلة إِلى الشرق”، روى فيه أَنه – خلال إِقامته في أَيار 1843 لدى دير مار يوسف في عينطورة (كسروان) للآباء اللعازاريين – وَجَد في مكتبتِهم مؤَلفاتٍ كثيرةً مطبوعةً، بينها مجموعةٌ من صحيفة “ناسك جبل لبنان”. وكان هيام ملَّاط، إِبان مراجعته أَعدادَ “المجلة الآسيوية” الْكانت تُصدرها “الجمعية الآسيوية” في فرنسا، عثَرَ صفحة 185 من مجلَّدها الأَول سنة 1822 على مقطعٍ ترجمَتُه: “أَصدرَ راهبٌ فْرنسي في جبل لبنان منشورةً دورية شهرية بعنوان “ناسك جبل لبنان”، تُعنى بالأَخبار السياسية والأَدبية، قد تكون أَول دورية من نوعها في حرَم الأَمبراطورية العثمانية”.
الغريب أَنَّ مؤَرِّخي الصحافة اللبنانية: فيليب دو طرازي وعيسى اسكندر المعلوف ويوسف أَسعد داغر وجوزف الياس وسواهم لم يذْكُروا تلك المطبوعة التي عاد هيام ملَّاط فقرأَ عنها في كتاب “مصر ونوبيا وأُورشليم وجبل سينا” الذي أَصدره في لندن سنة 1824 الرحالةُ الإِنكليزي فردريك هينّيكر Henniker، وفيه على الصفحات 349 و350 و351 صُوَر العدد 14 من دورية “ناسك جبل لبنان” عن شهر تموز 1820. وفي هذا العدد أَخبار من يافا (24 حزيران)، من طرابلس (4 تموز)، من اللاذقية (16 تموز)، ومن بعلبك (3 تموز).
وفاءً لاكتشاف العدد 14 من دورية “ناسك جبل لبنان”، أَوجَزَ هيام ملَّاط الفصل 25 من كتاب الرحَّالة هينِّيكر، وفيه تجواله في لبنان على صور وصيدا وبيروت وطرابلس ووادي قنوبين (قضى وقت راحة في دير مار أَنطونيوس قزحيا)، وأَكمل إِلى بْشرّي واستقرَّ أَيامًا في دير الكرمليِّين (هو ذاته دير مار سركيس الذي فيه اليوم جثمانُ ومتحف جبران)، وواصل حتى غابة الأَرز وأَكمل إِلى دير الأَحمر، ثم إِلى بعلبك فانبهر بهيبتها وجمالها، وقفَل عائدًا عن طريق طرابلس، مارًّا بخليج جونيه ووادي نهر الكلب، بالغًا بيروت التي سافر منها إِلى لارنكا.
إِنها رحلةٌ في لبنان الحضارة، رسَمَ لنا طريقَها الدكتور هيام ملَّاط فجُلْناها معًا، واكتشَفْنا أَوَّل دورية في لبنان (“ناسك جبل لبنان”) قبل 204 سنوات، وتابعنا الرحَّالة هينِّيكر في زيارته مُدُنَ لبنان القرن التاسع عشر، لنعودَ من هذه الرحلة بِيَقينِ أَنَّ في لبنان كنوزًا شهيَّةً للاكتشاف، يلْزَمُها مَن يُشيح عن إِضاعة وقته بانتظار (أَو متابعة) أَحداثِ لبنان السُلطة السياسية العابرة المتغيِّرة الزائلة، ويهتمُّ بلبنان الوطن الذي لا يَعبُر ولا يَتَغيَّر ولا يَزول.