الاحدثفلسطين

إسرائيل بينَ الواقِعِيّةِ المَريضَةِ والجُنون | بقلم البروفسور بيار الخوري

في ظلِّ الوَضعِ السياسيِّ الراهِنِ في إسرائيل، تَبرُزُ الانشقاقاتُ الداخلية كأحَدِ المَحاوِرِ الرئيسة التي يُمكِنُ من خلالها فَهم التداعياتِ الاجتماعية والسياسية العميقة. يَتّضِحُ ذلك من خلالِ تأثيرِ الانقساماتِ في الثقةِ المُجتَمَعية في المؤسّسات الحكومية والعسكرية، وتأثيرِها في وحدةِ الكيان.

عندما تكونُ لديكَ ثقةٌ راسخةٌ في قوّةِ جيش بلدك، وخصوصًا إذا كُنتَ آتيًا من ذاكرةٍ مليئةٍ بالاضطّهادِ والخوف، فإنَّ رؤيةَ جيشك يتخبَّطُ في معارك ويعجزُ عن الإنجازِ يُمكنُ أن تكونَ لها تداعياتٌ نفسية كبيرة. هذا الوضعُ يزيدُ من مشاعرِ القلقِ والخوفِ من المُستقبل، حيثُ يُواجِهُ الأفرادُ المُتشَكِّلون في جماعةٍ واقعًا غير مُتَوَقَّعٍ يجعلهم يشعرونَ بعَدَمِ الأمان على المستويين الشخصي والوطني.

في مثلِ هذه الأوقات، يبدأُ الأفرادُ والتكتُّلاتُ التشكيكَ في قيادتهم السياسية والعسكرية، ما يؤدّي إلى تآكُلِ الثقةِ في الحكومة والقيادة العامة. هذا التآكُلُ يُمكن أن يؤدّي بدوره إلى اضطراباتٍ اجتماعيةٍ نتيجةً لانعدامِ الثقةِ والخوفِ من المُستقبل، ويُمكِنُ أن يشملَ ذلك السخطَ وزيادةً في النزاعاتِ الداخلية، ومُحاولاتٍ للانقلابِ السياسي.

عندها، يبدأُ الأفرادُ والمُجتمعاتُ الفرعية ضمنَ الجماعةِ البحثَ عن بدائل لتحقيقِ الأمان والاستقرار، سواءَ كان ذلك من خلالِ تشكيلِ جماعاتٍ جديدةٍ أو اللجوءِ إلى حلولٍ أُخرى غير عادية. هذه التداعياتُ تتفاوَتُ حسبَ السياقِ الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يتشكّلُ في ظلِّهِ وَعيُ التكتُّلاتِ الفرعية ضمنَ الجماعةِ الأُم.

البحثُ عن بدائل في ظلِّ التوتُّرِ والخوفِ والقلقِ يؤدّي غالبًا إلى اتِّخاذِ قراراتٍ مُتَسَرِّعةٍ وغير مدروسةٍ قد تجرُّ المُجتَمَعُ بأكمله إلى مخاطر كبيرة. ومن بينِ هذه المخاطر اللجوءُ إلى الجماعاتِ المُتَطَرِّفة، حيثُ قد يَجِدُ الأفرادُ العزاءَ في الجماعاتِ التي تُقَدِّمُ حلولًا بسيطةً وسريعةً للمشاكل المُعَقَّدة. هذه الجماعاتُ قد تدعو إلى العنف أو الانقلاب الجذري، الأمر الذي يزيدُ من الفوضى.

كُلَّما زادَ البحثُ عن بدائل من هذا النوع، يُمكِنُ أن يتسبَّبَ ذلك في المزيدِ من تآكُلِ الثقة بمؤسّساتِ الدولة، ويتمُّ اللجوءُ إلى خياراتٍ غير تقليدية أو غير قانونية لتحقيقِ الأمنِ والاستقرار. هذا البحثُ عن الحلولِ السريعة يؤدّي بدوره إلى انقساماتٍ داخل المجتمع، حيثُ تختلفُ الآراءُ حولَ الحلولِ المُثلى. في هذه اللحظة، يصعَدُ قادةٌ شعبويون يُقدِّمونَ وعودًا برّاقةً وسهلة. هؤلاء القادةُ يفتقرون عادةً إلى الخبرة أو الرؤيةِ الحقيقية، مما يُمكِن أن يؤدّي إلى اتخاذِ قراراتٍ سيِّئة تزيدُ من أزمةِ الجماعة.

منَ المُرَجّحِ أن يؤدّي هذا الوضع إلى الانشقاقِ والتقاتُلِ الداخلي، وقد شهدَ التاريخُ العديد من الحالاتِ المُماثِلةِ التي تتجلّى فيها هذه الظواهر. عندما تُفقَدُ الثقة في المؤسّسات الحكومية والعسكرية وتنتشرُ حالةُ من الخوفِ والقلق، يمكن أن تتصاعَدَ الانقساماتُ الداخلية وتتحوَّلَ إلى صراعاتٍ عنيفة.

ما يحدثُ حاليًا في المجتمعِ الإسرائيلي يُظهِرُ تطابُقًا مع السياقاتِ المَنهَجيةِ للتدميرِ الذاتي. إسرائيل تُواجِهُ تحدّياتٍ متزايدة في ظلِّ صعودِ الأفكار القومية والمُتطرِّفة، مما يؤثر في الوحدة الاجتماعية والسياسية. الانقساماتُ الداخلية والخوفُ من المستقبل يُمكِنُ أن يؤدّيا إلى تآكلِ الثقةِ في الحكومة والقيادة العسكرية، ما يُعزِّزُ من احتماليةِ حدوثِ اضطراباتٍ اجتماعيةٍ وسيطرةِ قادةٍ شعبويين. ويُصبِحُ الاقتتالُ الداخلي أحدَ المآلات المُحتَمَلة: الخوفُ والصدمات، التشقُّقُ والانقسامات، المشاريعُ المُتَسَرِّعة وغير المدروسة، التناحُرُ الداخلي، وفي النهاية…الهزيمة.

قادةُ إسرائيل يُفكّرونَ بواقعيةٍ مريضةٍ حين يعتبرونَ أنَّ استمرارَ الحربِ هي الطريقةُ الوحيدةُ المُمكِنة لمَنعِ الاعترافِ بالهزيمةِ، وبالتالي مَنع انفجارِ إسرائيل من الداخل، لكنهم مجانين بالتأكيد إذا اعتبروا أنهُ يُمكِنُ تفجيرُ حربٍ شاملة، قد تُصبحُ عالمية، لمَنعِ هكذا انفجار.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى