بعد جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي- “العرقبادة” بحسب المصطلح الجديد للبروفيسور مكرم خوري مخول- التي ارتكبها الكيان الصهيوني وحلفاؤه بحق الشعب الفلسطيني وعموم شعوب المنطقة ومحور مقاومتها، وبعد فشله الذريع في تحقيق أهدافه المُعلنة بفعل الصمود التاريخي للشعب الفلسطيني ودعم ومساندة قوى المقاومة، فقد أصيب بحالة هستيرية غير مسبوقة، ولم يعد بمقدوره رؤية أشلاء حلمه تتناثر؛ لذلك أطلق الرصاصة قبل الأخيرة من بندقيته المستعارة من قاطع الطريق الأمريكي.
ولاريب أنَّ عدوانه الغادر على لبنان وشعبه ومقاومته يُعد تصعيدًا خطيرًا وانتهاكًا صارخًا لسيادته الوطنية، ووفقًا لكل المعايير الوطنية والقومية والإنسانية هو اعتداء على الأمة العربية كلها، وبمثابة إعلان حرب مفتوحة بلا سقوف أو قواعد اشتباك، ورغم الضربة الموجعة وما ألحقته من خسائر بشرية ومادية، إلّا أنها لن تنال من عزيمته وحقه المشروع في الدفاع عن نفسه واستعادة أرضه المغتصبة وفي نصرة المقاومة الفلسطينية. بيد أنَّ مدلولات هذه العملية الإجرامية النوعية توحي قبل أي شيء آخر بفقدان العدو توازنه؛ حيث جاءت في سياق محاولاته اليائسة لاستعادة هيبته ودوره الوظيفي في خدمة المشاريع الإمبريالية.
وهذا الأمر يمثل التحدي الأهم الذي يواجه الكيان الصهيوني الأجير، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد منحته فرصة أخرى من أجل ترميم صورته البشعة بالمزيد من الجرائم، ولن يتورع عن جر المنطقة إلى مواجهة شاملة، وإذا كان للحروب الاستعمارية منطقها ومسوغاتها غير الأخلاقية، فإن تجارب ثورات التحرر الوطني في مواجهة القوى الاستعمارية المتفوقة عسكريًا وتكنولوجياً تشي بأن استدراج العدو إلى فضاءات واسعة، يُفقده أهم مميزاته ويُشكِّل مقتله.
ولعل استراتيجية حرب الشعب الطويلة الأمد تتمحور بالدرجة الرئيسية حول هذه النقطة، ولا شك أن لمحور الشر الإمبريالي والصهيوني وحلفائه التقليديين، إمكانيات كبيرة التي لا يجوز أن تغيب لحظة واحدة، فإن إمكانيات جبهة المقاومة المستندة إلى قاعدة شعبية كبيرة ممتدة من الخليج إلى المحيط قادرة على تغيير موازين القوى، ولديه المقدرة والجهوزية على الصمود ومواصلة الحرب سنوات طويلة، مهما كانت الصعوبات والتضحيات. في حين أن العدو الإسرائيلي لا يتحمل حرب استنزاف طويلة؛ نظرًا لإمكاناته البشرية والطبوغرافية المحدودة، ناهيك عن طبيعة مكوناته الاجتماعية التي لا تملك مقومات ومُبررات كافية للبقاء، في ظل مناخ الحرب الطويلة بكل تبعاتها وتكاليفها. لذا فإن الصراع بقدر دخوله مرحلة نوعية جديدة، بقدر ما يحمل إمكانات واسعة لدحره وكسر شوكته، وبطبيعة الحال فإنَّ جبهة المقاومة لن تسمح بأن تهتز صورتها وثقة جماهيرها بها، وما يُحدثه صمودها من تفاعلات إيجابية على الصعيدين العربي والدولي.
هذا الاستخلاص الأولي لا بُد من تثبيته.. أما الاستخلاص الآخر فإنه من الطبيعي في كل الصراعات أن تحدث بعض الاختراقات والانتكاسات التي تستدعي المراجعات وإعادة التقييم، لجهة الاستفادة من الإخفاقات وفحص الخيارات وترتيب الأولويات واستقراء الآفاق، وبما أن ما يجري لا يمكن فصله عن الصراع العالمي وتأثيراته، فإنَّ التراجع الأمريكي الإمبريالي على الجبهة الأوكرانية يُمكن إدراجه ضمن هذا السياق، وإن كانت بواطن الأمور تؤكد أن القناعة الأمريكية بعدم إمكانية تحقيق نصر على الجبهة الروسية لم تعد محل نقاش جدي، خصوصًا بعد التقدم الميداني والتلويح الروسي باستخدام ترسانته النووية، لذا فإن الخيار الأنسب بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية اللجوء لتعويض هزيمة شبه مؤكدة في شرق القارة الأوربية، بنصر بديل في الشرق الأوسط، غير أن حساباتها قد جانبت الصواب. وبما أن الصراع العربي الإسرائيلي أكثر عمقًا وتعقيدًا؛ باعتباره صراعًا وجوديًا قائمًا على نفي أحد أطرافه، فإنه من غير المستبعد أن تكون العملية الإرهابية ضد لبنان ومقاومته، تدخل في إطار خلق وقائع ميدانية جديدة؛ وذلك تحسبًا للتحولات الدولية المرتقبة بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 18 سبتمبر 2024، والذي يُطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال 12 شهرًا؛ والذي يُعد- بصرف النظر عن مدى إلزاميته- قرارًا تاريخيًا، وما لا يجب أن يتطرق إليه الشك أن الكيان الصهيوني بخلاف مكاسبه الظاهرة قد بدأ عده التنازلي، ولن يفلت من حكم التاريخ الذي ينتظره، وأن دماء الشهداء والأبرياء في فلسطين ولبنان وكل ساحات المقاومة الراهنة والسابقة التي سالت في مواجهة الغزوة الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية منذ مطلع القرن الماضي وحتى الآن، لن تذهب سُدى، ولا نبالغ في القول إن “الجيش الذي لا يُقهر” سوف يُقهر وقد قُهِر بالفعل، وهو الآن يُنازع سكرات الموت.