ظاهرتان تحملان دلالات رمزية عميقة طفتا مؤخراً في سماء بلاد الأرز المكُفهرة بغيوم ملبّدة داكنة، تشبه إلى حد ما تلك التي غلّفت أجواء جبل لبنان خلال مجاعة 1915- 1918 التي أزهقت أرواح نصف سكان المتصرفية.
الأولى: اقتحام مُحتجين لبعض المطاعم في صور وبيروت، وإخراج روادها منها. الرسالة: إذا لم نأكل نحن، لن نسمح لكم بالأكل.
الثانية: تدفق المساعدات غير العسكرية على القوات العسكرية اللبنانية، أيضاً في صيغة مواد غذائية من المغرب أولاً (بإيعاز على الأرجح من الولايات المتحدة) ثم من فرنسا وقطر: الرسالة: إذا لم يأكل الجيش، لن يكون هناك لا جيش ولا دولة.
هذه الدلالات الرمزية تحمل في التفسيرات السوسيولوجية معنى فاقعاً واحدا: الصراع في لبنان من الآن فصاعداً لن يكون بين ثوار 17 تشرين والطبقة الطائفية، ولا بين التيارات السياسية التقليدية، ولا حتى بين الفقراء والأغنياء. سيكون ببساطة بين “الجائعين والشبعانين”.
في القرن التاسع عشر، وفي حمأة المآسي الاجتماعية التي تسبّب بها التصنيع الرأسمالي في الولايات المتحدة وأوروبا، برزت فجأة ظاهرة غريبة: مجموعات من العمال والموظفين والمواطنين العاديين تعلن رفضها لكل النظام، لكنها لا تتقدّم بأي مطالب محددة، بل تكتفي بإدارة الظهر وإطلاق العنان للشتائم من كل نوع. آنذاك، أُطلق على هؤلاء تعبير “الفلتانين”، أي المُتفليتن من أي قواعد أو قوانين أو قيود.
الجائعون الذين تحرّكوا ضد المطاعم، والذين كان قد يلحق بهم الجنود، هم عيّنة مطابقة لهذه الظاهرة. فهم أيضاً متفلّتون من أي ارتباطات حزبية أو سياسية، ومن أي برامج إيديولوجية، ومن أي أهداف محددة. إنهم ببساطة : فلتانون. وهذا الفلتان، وعلى رغم أنه ينطلق من الجوع، إلا أنه لا يقتصر عليه: إذ هو يشمل انهيار أي/ وكل معايير الانتماءات والقيم على أنواعها لديهم.
الفلتانون يشبهون تماماً البروليتاريا الرثة ( ( Lumpenproletaria الذي تحدث عنه كارل ماركس لوصف تلك الطبقة التي تكون في مرتبة دون الطبقة العاملة، والتي لا تحظى بأي نوع من الوعي. كما أنها غير مقيّدة بالعملية الإنتاجية أو بالحياة الاجتماعية، ولا فائدة منها في النضال الثوري. لا بل هي ربما تمثّل عائقا أمام التغيير.
الفلتانون، وفي سياق إنغلاق الأبواب والنوافذ أمام أي حلول أو مخارج من الأزمة الاجتماعية- الاقتصادية الخانقة، قد يتحوّلون قريباً إلى ظاهرة عامة مكتملة النمو تتحكّم بكل مفاضل الحياة وتنتشر كالنار في الهشيم من منطقة إلى أخرى. وهي (الظاهرة) ستزداد تفاقماً حين يحل اليأس المطبق في نفوس الجائعين من احتمال تحرّك السياسيين لمعاجلة آلامهم، ومن تأجيل مصالحهم الخاصة والآنية لمواجهة التسونامي الاجتماعي الكارثي الراهن.
هل ستتمكن الأحزاب السياسية من وقف هذا الفلتان؟
كلا. لا بل نعتقد أن العكس سيحدث: فمعادلة الجائعين في مواجهة الشبعانين ستطال أول ما تطال هذه الأحزاب نفسها، لأن الفلتانين سيقفزون حينها فوق الانتماءات الطائفية وحتى الدينية، وسينظرون إلى أعضاء الأحزاب “الشبعانين”، بفعل تقاضيهم الرواتب بالدولار، على أنهم أعداء وخضوم أشد مضاضة من الخصوم في الطوائف الأخرى.
الطبقة السياسية وأحزابها ستعتبر ظاهرة الفلتانين مجرد فوضى يجب ضبطها بشتى الوسائل، بما في عنف الدولة أو الميليشيات، وسترفع شعار الدفاع عن الأمن والأمان، أو قد تلجأ إلى تفجير الصراعات الأهلية الطائفية لتوجيه طاقة الفلتاتين إلى مسارب بعيدة عن مصالحها.
بيد أن كل ذلك لن يجد نفعا. التآكل الداخلي سيضرب مجتمعات هذه الأحزاب عاجلاً أو آجلاً. ولا ننسى هنا أن المتضورين جوعاً في التاريخ كانوا يلجأون إلى التهام البشر، كل أنواع البشر، ولا يميّزون بين لحم مؤمن أو كافر، كما فعلت الموجات الأولى من الحملات الصليبية التي لم تميّز في قضمها البشر بين لحم المسيحي في القسطنطينية وبين لحم المسلم في حلب.
لقد أشار تقرير الأمم المتحدة قبل أيام إلى أن عدد فقراء لبنان الذين لا يتناولون ثلاث وجبات في اليوم، قفز إلى 77 في المئة. وليس من الصعب في هذا الإطار البحث في صفوف هؤلاء عمن سيفتقدون قريباً حتى الوجبة الواحدة. وحينها سيتحوّل الفلتانون إلى جيش جرار سيندفع إلى إبتلاع كل ما تقع يداه عليه.
في العودة إلى مجاعة 1915، نذكّر أنها وقعت بفعل عاملي الحصار العسكري الذي فرضه الحلفاء والجراد. حصار دولي مماثل موجود الآن. أما الجراد فقد حلّ السياسيون مكانه في إلتهام الأخضر واليابس. فهل من مخرج ما من هذا الكابوس المُتجدد؟
قلنا في مقال سابق أن الرهان على القوى الحديثة العابرة للطوائف، في محله، كما تبدى واضحاً في انتخابات المحامين والمهندسين، وفي الصعود الملفت لقوى المجتمع المدني وفي مقدمها تيار مواطنون ومواطنات في دولة. لكن المشكلة هنا أن الانهيار الشامل قد يكون أسرع من عملية البناء المدنية هذه. ولذا، الحاجة ماسة بالفعل لحكومة عسكرية تسارع إلى تحقيق الإصلاحات لوقف الانهيار وتمهيد الطريق أمام بروز البدائل الأخلاقية- الحضارية الجديدة.
وهنا ثمة نصيحة للاحزاب، خاصة تلك الواثقة من تماسكها وشعبيتها: الحرب بين الجائعين والشبعانين بدأت بالفعل. وإذا ما واصلت هذه الاحزاب اللعب على حبال صراعات المصالح بين القادة السياسيين السايكوباثيين، ستنفجر ظاهرة الفلتانين في حضنها نفسه. وحينها، بدل أن يكون الجيش هو الحل المرحلي، ستتبخّر كل القيود والسدود أمام الفلتانين.