ازمة لبنانالاحدث
حين يُستهدف العقل بعد الروح: الطائفة الشيعية في اختبار البقاء السياسي | بقلم ناجي أمهز

أبلغ اليوم الخامسة والخمسين من عمري، وهي سنوات حملت من التجارب السياسية ما يعادل أعماراً مضاعفة، بفعل اقترابي الدائم من النخبة اللبنانية، لاسيما في أوساط الطائفة المارونية. منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ يتكرر أمامي اسم نبيه برّي، خصوصاً خلال انخراطي في الحالة العونية، غير أن أول من قدّمه لي بوصف تحليلي سياسي واجتماعي هو الأب الراحل الدكتور أنطوان ضو، الذي روى لي عن لقائه الأول بالرئيس برّي خلال زيارة للسفير البابوي إلى بربور، حيث وصفه بأنه رجل متوقد الذكاء، لامع الذهن، سريع البديهة، و”نبيهٌ فعلاً”.
لاحقاً، في عام 2000، وقبل فترة قصيرة من تحرير الجنوب، زارني سفير لبناني معروف بثقافته العميقة، فتحدث عن الشخصيات اللبنانية التي تملك تأثيراً دولياً، ولم يأتِ على ذكر نبيه برّي. فسألته عنه، فكان جوابه مفاجئاً في عمقه، إذ وصفه بأنه أحد أكثر السياسيين ذكاءً وليونة في مقاربة الملفات، وصاحب قدرة على الثبات في الموقف رغم كل التحولات. بدا واضحاً أن ما قيل لم يكن مجاملة، بل توصيف صادر عن إدراك. وفي هذا السياق، طرح السفير تأملًا حول غياب النفوذ الشيعي عن الانتشار الدولي، معيداً ذلك إلى عوامل تعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي، حيث رفض الشيعة – وخاصة في البقاع – الانخراط في المشروع العسكري الفرنسي، وفضلوا العمل في سكة الحديد رغم أجر أقل وجهد أكبر. وقد رأى في ذلك تمسكاً أصيلاً بالانتماء الوطني، ونفوراً من الارتباط بأي قوى خارجية.
هذا التوجه الثقافي ربما ساهم في انكفاء الطائفة الشيعية عن المحافل الدولية، بعكس الطوائف الأخرى التي امتدت علاقاتها نحو الغرب منذ قرون، ورسّخت حضوراً سياسياً وثقافياً على مستوى العالم. من هذا المنظور، يبدو أن نبيه برّي، كغالبية أبناء طائفته، لم يستند في مسيرته إلى دعم خارجي، بل صعد بفعل قدراته الذاتية، وصبره الطويل، ومهاراته السياسية، حتى فرض حضوره كرقم صعب في المعادلة اللبنانية.
في لقاء لاحق في مطلع عام 2003، خلال جلسة مغلقة ضمت بعض النخب، تحدّث خبير سويسري عن الزعامات الإقليمية في المشرق العربي، فذكر اسمَي الملك عبدالله ملك الأردن، ووليد جنبلاط كأقوى شخصيتين. لم يُذكر اسم نبيه برّي مجدداً، ما أثار لدي فضولاً متجدداً. ومع تراكم الأحداث لاحقاً، خاصة بعد انسحاب الجيش السوري، بدا واضحاً أن جنبلاط كان يحظى بهالة حماية دولية مكنته من الحفاظ على موقعه، كما برز دوره في تمثيل الطائفة الدرزية في لحظات مفصلية.
مع مرور الزمن، بدأ يتضح أن أحد أوجه القوة في زعامة جنبلاط الإقليمية كان وجوده كصوت حاضر في الخارج، وربما لهذا السبب، نشأت علاقة متينة وثابتة بينه وبين نبيه برّي، الذي وجد في جنبلاط صوتاً مكمّلاً له في الدوائر الدولية.
هذا التمهيد يهدف إلى إلقاء الضوء على لحظة سياسية مفصلية مرّت بها الطائفة الشيعية في لبنان. فللمرة الأولى في تاريخها الحديث، اجتمع قطبان شكّلا معاً قوة هائلة: نبيه برّي بذكائه السياسي ودهائه، وحسن نصرالله بروحه المقاومة، وعمقه التأثيري في الوجدان العربي والإسلامي، والمدعوم بحضور بشري وإسناد إيراني واسع.
معاً، سجّلا انتصارات مدوية على العدو الإسرائيلي في عامي 2000 و2006، كما تمكنا لاحقاً من التصدي لموجات التكفير. شعرنا حينها بأننا في ذروة المجد، لكن في خضم هذه القوة، غاب عنا إدراك الحاجة إلى تأسيس قطب ثالث: نخبة سياسية وإدارية قادرة على تحويل هذا الإنجاز إلى مشروع طويل الأمد داخل الدولة.
الخلل لم يكن في المعارك، بل في ما بعد المعارك. سقطت السياسة في فخ الشعارات والمناصب، وغابت الرؤية المؤسسية، فصار الجهد السياسي محصوراً في مظاهر اجتماعية، واستعراضات إعلامية، دون امتلاك أدوات الفهم العميق للواقع الدولي أو آليات التأثير فيه. لم تُبذل جهود كافية لصناعة نخب سياسية جديدة قادرة على الاستمرار، وكأننا اكتفينا بما تحقق، وتوقّفنا عن الاستثمار في العقول والكوادر المؤهلة.
مع تراجع الحضور الإعلامي، وغياب القادة الميدانيين بفعل الاستهداف المستمر، بقي الصوت السياسي ممثلاً في شخص نبيه برّي، وهو اليوم يواجه ضغوطاً غير مسبوقة، مصدرها الأساسي الولايات المتحدة. لا تبدو هذه الضغوط مجرد خلاف عابر، بل جزءًا من خطة ممنهجة لضرب ما تبقى من حضور الطائفة الشيعية في المعادلة السياسية، خصوصاً بعد فقدانها لقادتها الرمزيين.
في هذا السياق، تبدو المعركة الحالية ضد برّي بمثابة الفصل الأخير. إذ ترى الدوائر الدولية أنه بعد خسارة الروح التعبوية التي كان يمثّلها نصرالله، فإن عزل برّي سيُسقط الغطاء السياسي المتبقي، ويفتح الباب أمام تفكك داخلي تدريجي.
ربما لدى البعض تحفظات على أداء برّي أو محيطه، وهي تحفظات مشروعة، لكن النقاش هنا لا يدور حول الأشخاص بقدر ما يتناول موقعاً تمثيلياً وسياسياً في لحظة مصيرية. فإذا خرج هذا الموقع من المشهد، فإن الطائفة الشيعية قد تجد نفسها مهمشة في أكثر اللحظات حساسية، بينما تعاد صياغة الخرائط السياسية في المنطقة.
من هنا، قد تكون الحاجة ملحّة اليوم إلى بلورة إطار سياسي جديد، أو إنشاء رابطة من النخب الشيعية المتخصصة، لتأطير الدور المستقبلي للطائفة ضمن مشروع وطني شامل، يتجاوز الأفراد، ويعيد وصل ما انقطع مع الدولة والمؤسسات.