بعيدًا عن كل ما تم الاجتهاد به من نبؤات وتوقعات دينية (التوراتية والانجيلية والقرآنية)، وما تحدث به المنجّمون من أننا نقترب من زوال “دولة إسرائيل“، إلا أن المعطيات والتحليلات السياسية التي نشاهدها ونقرأها اليوم، تشير إلى أن هذا “الكيان” يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومما دفعني للقيام بهذا البحث حول “حقيقة” وليس “نبوءات زوال إسرائيل”، هو مجموعة آراء لمؤرخين وكتّاب معروفين ومرموقين على الساحة الدولية يؤيدون هذا الرأي بالتحليل المنطقي وليس “بالرغبات”، كـ نعومي كلاين (مؤلفة كتاب عقيدة الصدمة – كندية يهودية)، وتوماس فريدمان (من أبرز كتاب صحيفة نيويورك تايمز – يهودي أميركي)، وإيلان بابيه (مؤرخ بريطاني-إسرائيلي وخبير وسياسي إسرائيلي سابق. وهو أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة إكسِتِر في المملكة المتحدة).
بالإضافة إلى أفراهام بورغ السياسي الإسرائيلي المخضرم ورئيس الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) سابقا، الذي أثار عواصف في الرأي العام الإسرائيلي على مدى سنوات بآرائه التي حذرت من توافر أسباب زوال إسرائيل.
ويرى بورغ أن إسرائيل بنبذها للديمقراطية وتمسكها بعقلية “الغيتو” وإهدارها للقيم الإنسانية، إنما تأخذ بأسباب الانهيار وتعجل بالنهاية. ففي عام 2003 كتب بورغ مقالا لصحيفة غارديان البريطانية بعنوان “نهاية الصهيونية” تحدث فيه عن العواقب الخطيرة للسلوك الإسرائيلي. وقال بورغ “إن إسرائيل التي لم تعد تعبأ بأبناء الفلسطينيين لا ينبغي أن تتفاجأ حين يأتي الفلسطينيون إليها مشحونين بالحقد ويفجرون أنفسهم في مراكز اللهو الإسرائيلية”. وفي عام 2007، أثار بورغ عاصفة أخرى حين نشر كتابه “هزيمة هتلر” الذي يشبه فيه حال إسرائيل بحال ألمانيا النازية قبيل هزيمتها، ويقول إن الدولة باتت تحت رحمة أقلية متطرفة. وقال: “إسرائيل غيتو صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته”، ويوضح في أحد الحوارات الصحفية أن “الناس يرفضون الاعتراف بذلك، لكن إسرائيل اصطدمت بجدار، مضيفًا أن “النخبة الإسرائيلية انفصلت عن هذا المكان، ولا أمة دون نخبة”.
وأيضاُ في مقابلة مع صحيفة “هآرتس العبرية” يقول المؤرخ الإسرائيلي الشهير بيني موريس والذي يعد من أحد أشهر وجوه حركة “المؤرخين الجدد” (مصطلح يطلق في إسرائيل مجموعة من المؤرخين الذين نقضوا الرواية الإسرائيلية المعتمدة لتاريخ الصراع مع العرب، واعترفوا بما ارتكبه الصهاينة من قتل وتهجير)، يرى “أن الإسرائيليين ضحايا تتربص بهم الأمم، ويوجد آخرون يرون أنهم مذنبون يكتبون تلك النهاية “المأساوية” بأيديهم”. ويضيف موريس: “هذا المكان سيتردى كدولة شرق أوسطية ذات أغلبية عربية. العنف بين المكونات المختلفة داخل الدولة سيزيد. العرب سيطالبون بعودة اللاجئين. واليهود سيظلون أقلية صغيرة في خضم بحر عربي كبير من الفلسطينيين.. أقلية مضطهدة أو مذبوحة، كما كان حالهم حين كانوا يعيشون في البلدان العربية. وكل من يستطيع من اليهود سيهرب إلى أميركا والغرب”.، ويحدد موريس: “إن “الفلسطينيين ينظرون إلى كل شيء من زاوية واسعة وطويلة الأمد، ويرون أن هناك 6 أو 7 ملايين يهودي، يحيطهم مئات الملايين من العرب. ليس ثمة ما يدعوهم للاستسلام لأن الدولة اليهودية لا يمكن أن تدوم. الانتصار سيكون حليفهم حتما، في غضون ثلاثين إلى خمسين سنة سينتصرون علينا”.
أما إيلان بابي: يرى أن هناك 6 مؤشرات لزوال الصهيونية وهي كالتالي:
المؤشّرُ الأوَّل هو انقسامُ المُجتمع اليهودي الإسرائيلي. فهو يتألف في الوقتِ الحاضر من مُعسكَرَين مُتنافسَين غير قادرَين على إيجادِ أرضيةٍ مُشتركة.
المعسكر الأول: “دولة إسرائيل”. وهو يضمُّ الكثيرَ من العلمانيين والليبراليين، ومعظمهم، من اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة وأحفادهم، الذين لعبوا دورًا فعّالًا في تأسيس الدولة في العام 1948 وظلّوا مُسَيطِرين عليها حتى نهاية القرن الماضي.
المعسكر الثاني: هو “دولة يهودا” التي نشأت بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة. وهي تتمتّعُ بمستوياتٍ مُتزايدة من الدَعمِ داخل البلاد وتُشكّلُ القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز بنيامين نتنياهو في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. ويتزايدُ نفوذها في المستويات العليا في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن بشكلٍ كبير.
تُريدُ “دولة يهودا” أن تُصبِحَ إسرائيل دولةً دينية تمتدُّ على كامل فلسطين التاريخية. ولتحقيقِ ذلك، فهي عازمة على خفضِ عددِ الفلسطينيين إلى الحدِّ الأدنى، وهي تُفكّرُ في بناءِ معبدٍ ثالثٍ بدلًا من مسجد الأقصى. ويعتقدُ أعضاؤها أن هذا الأمر سيُمكّنهم من تجديد العصر الذهبي لممالك الكتاب المقدّس (التوراة).
بالنسبة إليهم، يُعتَبَرُ اليهود العلمانيون هراطقة مثل الفلسطينيين إذا رفضوا الانضمامَ إلى هذا المسعى.
المؤشّرُ الثاني: هو الأزمة الاقتصادية في إسرائيل. لا يبدو أنَّ الطبقةَ السياسية لديها أيّ خطةٍ لتحقيقِ التوازن في المالية العامة وسط الصراعات المسلحة الدائمة، إلى جانب الاعتمادِ بشكلٍ متزايد على المساعدات المالية الأميركية. ففي الربع الأخير من العام الفائت، تراجعَ الاقتصاد بنحو 20%؛
المؤشّرُ الثالث: هو عزلةُ إسرائيل الدولية المُتزايدة، حيث تتحوّلُ تدريجًا إلى دولةٍ منبوذة. ويتجلّى ذلك في المواقف غير المسبوقة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. فإنَّ القرارات الأخيرة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ــوالتي مفادها أنَّ إسرائيل ربما ترتكب جريمة إبادة جماعية، وأنه ينبغي اعتقالُ قادتها لارتكابهم جرائم حرب ــ يجب أن يُنظرَ إليها على أنها محاولةٌ للاستجابةِ لوجهاتِ نظرِ منظّمات المجتمع المدني العالمية، بدلًا من أن تَعكُسَ فقط رأي النخبة.
المؤشّرُ الرابع: المُترابِط هو التغيُّرُ الكبير الحاصل بين الشباب اليهود حول العالم. في أعقابِ أحداثِ الأشهر التسعة الماضية، يبدو أنَّ الكثيرين الآن على استعدادٍ للتخلّي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية والمشاركة بنشاطٍ في حركة التضامن الفلسطينية.
المؤشّرُ الخامس: هو ضعفُ الجيش الإسرائيلي. ليس هناكَ شكٌّ في أنَّ جيشَ الدفاع الإسرائيلي لا يزالُ قوّة ضاربة قوّية ويمتلك أسلحة متطورة تحت تصرّفه. ورُغمَ ذلك فقد انكشفت حدوده في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). يشعرُ العديدُ من الإسرائيليين أنَّ المؤسّسة العسكرية كانت محظوظة للغاية، لأنَّ الوضعَ كانَ من المُمكِن أن يُصبحَ أسوأَ كثيرًا لو انضمَّ “حزب الله” إلى هجومٍ مُنَسَّق.
المُؤشِّرُ السادس: هو تجديد الطاقة لدى جيل الشباب الفلسطيني. فهذا الجيل يبدو أكثر اتحادًا وترابُطًا عضويًا ووضوحًا بشأن آفاقه من النخبة السياسية الفلسطينية. ونظرًا لأنَّ سكان غزة والضفة الغربية هم من بين أصغر سكان العالم سنًا، فإنَّ هذه المجموعة الجديدة سيكون لها تأثيرٌ هائلٌ على مسارِ النضالِ من أجل التحرير.
أما رأي الكاتب اليهودي في صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان ورأيه قبل وبعد 7 أكتوبر:
” إسرائيل التي عرفناها إلى زوال، عبارة كانت عنوان مقال في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بُعَيْد فوز الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف الحاكم في إسرائيل الآن بالانتخابات التشريعية آنذاك. وفي مقاله له بعد 7 أكتوبر 2023، بصحيفة نيويورك تايمز، قال فريدمان إنه كان يقصد بتلك العبارة (إلى زوال) أن تكون بمثابة تحذير للفت الانتباه إلى مدى تطرف هذا الائتلاف. وأوضح الأسباب التي تدفعه إلى هذا الاعتقاد، ومن بينها أن إسرائيل تواجه قوة إقليمية عظمى متمثلة في إيران التي تمكنت من وضع إسرائيل “في كماشة” باستخدام من وصفهم بوكلائها في المنطقة”.
وأما نعومي كلاين التي تبرأت مما تقوم به “دولة إسرائيل بحق الفلسطينيين” فقالت: “أفكر في موسى، وغضبه عندما نزل من الجبل ليجد بني إسرائيل يعبدون عجلا ذهبيا.. في عيد الفصح هذا، لا يحتاج اليهود ولا يريدون صنم الصهيونية الكاذب. نريد التحرّر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا”، و”العديد من أبناء مجتمعنا يعودون لعبادة صنم زائف مجددا. إن هذا الصنم المزيف يُعرف باسم الصهيونية.. إنه صنم مزيف ينتحل أعمق قصصنا التوراتية عن العدالة والتحرر من العبودية -قصة عيد الفصح بحد ذاتها- ويحوّلها إلى أسلحة وحشية للسرقة الاستعمارية للأراضي، وخرائط طريق للتطهير العرقي والإبادة الجماعية”.
هذه الآراء وغيرها مما هو منشور في أكثر من كتاب وصحيفة وموقع الكتروني، إذا ما أضفنا عليها أسباب انهيار هذا “الكيان المصطنع” الحقيقية، والتي باتت واضحة من خلال حجم الخلافات العميقة بين مكونات المجتمع الصهيوني بين العلمانيين والقوميين والحريديم والتجمعات الأخرى المنقسمة على بعضها كـ حركة “ناطوري كارتا” تختلف دوافع رفض الصهيونية، بين رفض مشروعها الدولي في فلسطين بصفته مشروعًا استعماريًا، ورفضها في قطاعات يهودية علمانية فضَّلت الاندماج في المجتمعات التي تعيش فيها، ورفضت ربط الهوية اليهودية ببعد قومي أو دولي، وترى المعتقدات الدينية اليهودية أن العودة إلى «أرض الميعاد» مرتبطة بقدوم المسيح. وغيرها من الانقسامات الحادة بين الغربيين والشرقيين (الأشكيناز والسفارديم).
هذا بالإضافة إلى الانهيار الاقتصادي، والذي وصل إلى أسفل درك لم يشهده هذا “الكيان المصطنع”، فحجم الخسائر لغاية الآن منذ 7 أكتوبر بلغت ما يقارب الـ 80 مليار دولار، بالإضافة الى حالة الهجرة المتواصلة منذ بدء الحرب والتي بلغت بحسب إحدى الإحصاءات أكثر من 600 ألف مهاجر ممن يحملون الجنسيات المزدوجة (بلا رجعة)، ناهيك عن حجم الخسائر بالأرواح والجرحى والمعوقين والأضرار المادية المختلفة.
فحالة الإنهزام الذي يعاني منها “الجيش الصهيوني”، والتي بلغت حد رفض الخدمة من قبل الإحتياط وهرب عدد كبير من ضباط وعسكر “الجيش الصهيوني” خارج “الكيان”، بالإضافة الى التهديد المستمر من الحرب على “الجبهة الشمالية” أي الجنوب اللبناني ضد¬ المقاومة الإسلامية (حزب الله)، جعل قيادة الجيش الصهيوني الأمنية والعسكرية تفكر 1000 مرة قبل اللجوء الى مثل هذه المعركة والتي ستكلف “إسرائيل” أكثر مما تتوقع، خاصة وأن حزب الله استطاع خلال الـ 9 أشهر المنصرمة، من رصد أماكن ضعف العدو الصهيوني في أكثر من مكان، إن كان من خلال وسائل الرصد والمخابرات، أو من خلال التعمية التي قامت بها المقاومة الإسلامية على الحدود الفاصلة بين لبنان وفلسطين المحتلة من خلال ضربها لمنظومة الرصد والاستخبارات والكاميرات وأجهزة التجسس على طول الحدود. وبعد الإحداثيات التي عادت بها طائرة “الهدهد” التي قامت بمسح شامل لكل الكيان الصهيوني من أقصاه إلى أقصاه.
الخلاصة: ما نراه الآن من تخبط سياسي وعسكري ما بين “نخبة” المجتمع الصهيوني، والطبقة السياسية الحاكمة (اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو)، وقيادة الجيش، وبعد استقالة وزيرين أساسيين من حكومة نتنياهو الجنرال بني غانتس والجنرال غادي آيزنكوت، بالإضافة إلى حالة الإنكسار لدى عائلات الأسرى والمتضامنين معهم، ووضع النازحين من “شمال الكيان الصهيوني وجنوبه (غلاف غزة)، والذي يقدر بربع مليون نسمة، حُشروا في وسط “إسرائيل” في منطقة “غوش دان” بالإضافة إلى تكلفته الباهظة والتي تبلغ يوميًا ما يقرب الـ 56 مليون دولار، ناهيك عن الخسائر الإقتصادية المترتبة على “الكيان الصهيوني” جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها الشركات المستثمرة وخاصة في مجالات التكنولوجيا والصناعات المختلفة، والسياحة، والاستنزاف اليومي التي تعاني منه من خلال الضربات التي تقوم بها المقاومة في الضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان، الخ… يجعلنا نعتقد أن هذا الكيان بات عبئًا على الدول الداعمة له (أميركا وبريطانيا وألمانيا والغرب عمومًا)، وبات قاصرًا عن أداء الوظائف التي كان يقوم بها، وبات بحاجة إلى حماية دائمة وأوكسجين غربي للاستمرار كرجل مريض يعاني سكرات الموت.
فنحن أمام مرحلة جديدة، قد نشهد فيها هزيمة مدوية للكيان الصهيوني وفقًا للمعطيات التي ذكرتها أعلاه، وأمام إعادة رسم جديد لخارطة المنطقة من خلال تسويات أو تحالفات قد نشهدها في القريب العاجل، إذا ما توقفت الحرب الآن ولم تتسع دائرتها لتشمل المنطقة بأسرها إذا لم نقل امتدادها لتبدأ حرب عالمية ثالثة لا تحمد عقباها.