“شطوب في مرآة” لدلال قنديل.. نيابة عن شهود حرب لبنان الأهلية | كتب سومر شحادة
وثيقةُ جيلٍ من اللبنانيين، بالتحديد في إحدى قرى الجنوب. حيثُ تتداخل مع الحدث اللبناني الفصائلُ الفلسطينيَّة، وقوّات الاحتلال الإسرائيلي؛ بثنائية المعتدِي الذي سرق الأرض واقتحم الجوار، والمعتدَى عليه الذي سُرِق واقتُحمت أرضه. وهذا يحدث في فضاء الأحزاب والتيارات الدينية والسياسيَّة التي لم يُكتَب للبنان أن تكون إثراءً له، وإنَّما ظهرت لعنةً عليه. رواية الإعلامية والكاتبة اللبنانية دلال قنديل “شطوب في المرآة”؛ تعرضُ مصير جيل الحرب اللبنانيَّة في ضوء هذه التغيّرات التي عصفت بلبنان، وغيَّرت وجهه.
الرواية الصادرة عن “دار الرافدين” (2023)، مكتوبة بشخصيات قليلة، إلّا أنَّ جميع هذه الشخصيات، كلٌّ بدوره، يمثّلُ تياراً ما. أبطالُ الرواية ليسوا أشخاصاً بقدر ما هم أحزابٌ وقوى، وصعود شخصية ما أو هبوط أُخرى، ليس أكثر من دلالة على صعود حزب أو تنظيم، وانهيار آخر، وهذا يحصل على خلفيَّة صراع المال والسلطة. حتى لكأنَّ الطوائف ذاتها، ليست أكثر من قناع زائف لفساد النفوس، ورجال الدِّين ليسوا أكثر من موظّفين صغار. لكن ليسَ لدى الأديان أو خدماً لله، وإنما لدى دار الإفتاء. في الرواية، كشفٌ للعقائد ولرموزها، وتأريخ لحقبة من تاريخ لبنان، الذي نسفه تناحر العقائد التي لم تكن أكثر من شكليّات هدفها أن تَسرق اللبنانيين، انتهاءً إلى سرقة لبنان نفسه.
بهذه الصورة، تصعب قراءة العمل من غير الإشارة إلى ما يدلُّ عليه. فهو مكتوب بالنيابة عن شهود مرحلة، القصص التي فيه واللحظات المصيرية التي صنعت تحولات الشخصيات، ارتبطت بتغيراتٍ لم تحصل بفعل قوى المجتمع. وإنما يلمح القارئ تدخّل الإقليم. يلمح حروب التمويل، يلمحُ الدعم الذي تلقّته تيارات إسلامية في وجهِ أفراد ينتمون إلى اليسار. وهُم “أفراد” لأنَّ النص أمينٌ للواقع. فالكاتبة لا تُبالغ في استعراض ما توثّق له، لا تبالغ في تأويلاته، وإنما تعرضه بالتدخّل الفني الأدنى الذي يجعل من نصها محاكاةً لمعادلات لبنان. وهي معادلات جعلت منه ساحة، الكثير من أبنائه خرجوا منها؛ إما إلى المنفى أو إلى الموت.
مع ذلك، فإنَّ النص يُظهر كيف أعادت الحرب ترتيب التحالفات، والتغيّرات العاصفة التي تلمُّ بشخصيات الرواية أحدثَها انقلابُ الحرب على الحياة القديمة التي كانت. أحدثَها نسفُ الحرب للعلاقات القديمة التي كانت. إذ نرى أنَّ العلاقة بين الشيخ خضر وعامر، وهما ثنائية الشيخ والشيوعي، قد تغيّرت. ليس فقط بالمعنى الذي يخدم لبنان، أو يخدم اللبنانيين في تلك القرية الجنوبيَّة؛ بل في أنَّهما تشاركا المرأة نفسها، مريم، وإن كان كلُّ منهما ذهب إلى مصيره خارج القرية. وعامر هو من ساعد الشيخ خضر للخروج من مأزقٍ رمته بهِ دار الإفتاء والمختار والبيك، عناصر تُلخّص لبنان. والنص مكتوب ليؤدّي هذا العرض الرمزي الدالّ على قوى الواقع في حينها.
لكن ما يجمع تلك الرموز، هي مريم، التي بقيت في القرية مخذولة من العشاق، وخائبة من الأهل. وقد حمَّلتها الكاتبة ما جعلها تلتصق بصورة لبنان، إذ تلك المرأة المخدوعة؛ التي تمتلئ بالعيش، التي تتعلم القراءة في العشرينيات، ثم تنجز معمل خياطة لسيدات القرية، وتحاول قصارى جهدها أن تعيد الحياة العادية إلى طبيعتها القديمة، المنفتحة والإنتاجيَّة، بلا تدخل العمائم. ثمَّ بعد موتها، توصي أن يبقى ريع المعمل لمدارس محو الأمية.
حتى إن الرواية، أخذت عنوانها من مرآة مريم. ومع تقدّم الحكاية، نجد أن شطب المرآة، ما هو إلا انعكاسٌ لشرخٍ أصاب الحياة نفسها. وهو شرخ الحرب. وقبل ذلك، شرخُ الجهل والأمّية، وغياب القرار اللبناني. حتى لكأنَّ الشطوب التي في المرأة، ليست إلّا ندبُ الحرب، ليست إلّا انقطاعات الأمل بالغد.