ازمة لبنانالاحدث
كيف أرهقت موازنة العام 2024 اللبنانيّين بعد أشهر من إقرارها؟ | بقلم د. رنا منصور
إنّ تعزيز واردات الدولة على حساب تفاقم الأزمة الماليّة للمواطن اللبنانيّ ونفور الاستثمار الأجنبيّ كان أمراً متوقّعاً بعد إقرار موازنة العام 2024 التي استحدثت رسوم وضرائب شتى ورفعت معدلاتها بشكل غير مسبوق، في الوقت الذي لم يعد باستطاعة المواطن تحمّل المزيد في ظل اشتداد الخناق المعيشيّ عليه وارتفاع منسوب فقره لدرجة أنّ مئات الآلاف من اللبنانيّين دخلوا مؤخّراً في تصنيف الفقر المدقع.
تلحظ موازنة العام 2024 نفقات إجماليّة تقارب الـ3.3 مليار دولار أميركيّ مقابل إيرادات إجماليّة بقيمة 3.1 مليار دولار، ما سوف يخلّف عجزاً بقيمة ما يوازي 191 مليون دولار على الأقل، خلافاً لما صرّح المسؤولون. كما اتّسم قانون الموازنة بالعديد من النقاط السلبيّة، أبرزها أنّها لم تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعيّ للمواطن بعد هبوط قيمة العملة الوطنيّة بنسبة 98% منذ العام 2019، ولا ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركيّ بنحو 60 ضعف، ولا التضخّم التراكميّ بنسبة 5 آلاف% منذ بداية الأزمة، الأمر الذي كان يفرض على نوابنا الكرام مكافحة الهدر وترشيد الإنفاق والإدارة وإيجاد جوانب أخرى للتمويل كدعم الاستثمار مثلاً، عوضاً عن زيادة الضرائب والرسوم بشكل جنونيّ من أجل تمويل القطاع العام.
ها هي تقارير وزارة الشؤون الاجتماعيّة الرسميّة تصرّح بأنّ نسبة فقراء لبنان وصلت إلى 83٪. فمن أين سيتمكّن هؤلاء من دفع الضرائب المموّلة للدولة والنفقات الباهظة؟
كما أنّ قانون الموازنة افتقر إلى رؤية اقتصاديّة وإلى توضيح استراتيجيّة الحكومة الرشيدة والماكرو-اقتصاديّة للمستقبل، والتي كان يجب أن تندرج في إطارها الموازنة السنويّة.
إنّ العجز الماليّ المتوقّع للعام 2024 الذي سيبلغ أقلّه 191 مليون دولار هو صوريّ للغاية، في ضوء الإنفاق الإضافيّ المرتبط بالحرب وهشاشة السلم الأهليّ وانعدام التوافق على انتخاب رئيس جمهوريّة جديد وتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات تجري التعيّينات في المواقع القياديّة الإداريّة والقضائيّة والأمنيّة، وفي ضوء التأخّر بإقرار الإصلاحات الضروريّة التي يطلبها صندوق النقد الدوليّ تمهيداً لتوقيع الإتّفاق الرسميّ معه.
كان يجب أن يتجنّب قانون موازنة العام 2024 المعاملة التفضيليّة لبعض المكلّفين على حساب البعض الآخر، ويُعيد النظر في المواد التي تُنفر الاستثمار الأجنبيّ المحرّك الأول للنمو الاقتصاديّ اللبنانيّ، لاسيما أنّه نقل اقتصادات دول كثيرة في العالم إلى الأفضل ككوريا الجنوبيّة وتايوان وهونغ كونغ وماليزيا والصين والهند. كما كان يجب أن يتضمّن قانون موازنة العام 2024 موارد كافية لتحسين العدالة الضريبيّة، بحيث يُعفى جميع الفقراء والمساكين والمرضى والمؤسسات الصغيرة من الضريبة بشكل كليّ. كذلك فكان من المفترض الحدّ نهائياً من فرض رسوم محسوبة بالدولار الأميركيّ لتجنّب ظهور طلب مفرط على الورقة الخضراء في السوق من قِبل المكلّفين بغرض تسديد الضرائب، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الهبوط بقيمة العملة اللبنانيّة. بالأحرى، كان ينبغي احتساب الضرائب كلّها بالليرة اللبنانيّة وإيداع الإيرادات لدى مصرف لبنان، على أن يقوم هذا الأخير بإجراء التحويل اللازم كلّما احتاجت الحكومة إلى تسديد دفعة متوجّبة بالدولار الأميركيّ.
أمّا إذا نظرنا للموازنات الأجنبيّة كالفرنسيّة مثلاً فنجدها قائمة على البرامج والأداء وتأثيراته المباشرة على المجتمع وصحته وبيئته، وهذا التحوّل كان كفيلاً لوحده لو اعتمدناه أن يُعيد هيكلة وتحديث اقتصاد الوطن وإدارة موارد الدولة البشريّة ويُقلّص حجم الإنفاق ويزيد فعاليّته.
إنّ ربط النتائج المتوقّعة بالبرامج أو السياسة العامة الماليّة للدولة أمر أساسيّ في الدول المتحضّرة، وبالتالي يجب إصلاح الموازنات القادمة على هذا الأساس لتكون مدخلاً للإصلاح الإداريّ الذي يطلبه صندوق النقد الدوليّ ولزيادة النجاعة الماليّة.
إنّ التوجهات الاقتصاديّة المعتمدة في موازنة العام 2024 لم تنجح حتى الآن، ولم يصدق أحد أنّها ستأتي بصفر في العجز الماليّ، وكان يجب أن تتضمّن معالجة للدين العام وإعادة هيكلة القطاعَيْن المصرفيّ والعام والتوقّف عن مخالفات سلفات الخزينة.
إنّ الدولة على هشاشتها وقعت بفخ اللامبالاة وسقطت بمقولة إلقاء الضغوط على المواطنين الفقراء الذين تبلغ نسبتهم 83%، وخلقت لهم عبئاً لا يُطاق وأثقلت كاهلهم بالديون بعدما نهبت ودائعهم في المصارف دون رقيب أو حسيب أو نظام قضائيّ مستقل قادر على المساءلة والمحاسبة.
باختصار، بعد أشهر على إقرار الموازنة ثبت بالدليل القاطع أنّ الشعب نجح بتعزيز موارد الدولة، ولكن للأسف على حساب المواطنين الفقراء واليتامى والمساكين وذوي الأمراض المستعصية والاحتياجات الخاصة، فهنيئاً للبنانيّين بهذا الإنجاز.