الاحدثالملف العربي الصيني

خمسون لبنان والصين (الجزء الثامن) : شهادة 42 عامًا من الصداقة | بقلم د. جميل حديب

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

 

في ذكرى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين ولبنان في العام 1971 أحببت أن أشارككم شهادتي المتواضعة على تطوّر هذه العلاقات من وجهة نظر طالب لبناني بدأ مسيرته العلمية في الصين في العام 1979، وعاش فيها لمدة عشر سنوات كانت كافية لتطبع باقي حياته بآثار حضارة قديمة عريقة، ودولة مصمّمة، وشعب ملتزم استطاع في وقت قصير أن يحقق ما لم تستطع دول عظمى تحقيقه في مجالات التنمية والتطوّر الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والاجتماعي…

منذ نشوء العلاقة الدبلوماسية بين البلدين، حظي لبنان، على صغر مساحته، باهتمام الحكومة الصينية، حيث ربطتهما علاقات تجارية تطوّرت عبر السنوات، خاصة بعد استلام الزعيم دينغ شياو بينغ زمام القيادة ودعوته لتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح في العام 1978، لتشمل قطاعات أخرى إلى جانب التجارة كالصناعة والتعليم. ومع إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” من قبل الرئيس شي جين بينغ في العام 2013، حقّقت الصين قفزة نوعية في تعزيز مكانتها الاقتصادية والثقافية في جميع أنحاء العالم بشكل أصبح اقتصادها يحتل حاليًا المرتبة الثانية عالميًا.

وأكثر ما يثير الاعجاب والاحترام هو قدرة الدولة والشعب على تحقيق التطوّر والانفتاح، فبعد صدور الأسس الجديدة للاشتراكية الصينية في الجلسة العامة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني في العام 1978، أطلق الرئيس دنغ شياو بينغ شعارات ضمن سياسة الإصلاح والانفتاح عدّة منها “احترام المعرفة، احترام المواهب” و”تماشي التعليم مع متطلبات التنمية الاقتصادية الوطنية”. ودخلت الدولة الصينية منذ ذلك الحين في ورشة وطنية لتحقيق التقدّم في التعليم في كافة مراحله تدريجيًا، واليوم الصين هي في طليعة الدول المرغوبة لتحصيل التعليم المتخصص في كافة المجالات. ولتحقيق ذلك، بدأت الصين بإرسال البعثات الطلابية إلى جميع أنحاء العالم، وخاصة إلى الجامعات المتقدّمة علميًا وبحثيًا، حيث بدأ البرنامج مع 52 طالبًا وطالبةً خلال العام 1978 ووصل في العام 2016 إلى 550 ألف طالب وطالبة. وحتى نهاية العام 2008، بلغ العدد التراكمي للمبعوثين من الصين إلى الجامعات العالمية 1،391،000 طالب وطالبة.

تمثًل كذلك انفتاح الصين باستقبال طلاب من مختلف دول العالم للتحصيل العلمي في الصين في مجالات شتى أدبية وعلمية من هندسة وطب وعلوم الحياة والاقتصاد وإدارة الأعمال وغيرها، وفتحت المجال أمام طلاب الدراسات العليا للتخصص باللغة الانكليزية. في العام 1979، كنت من أوائل الطلاب اللبنانيين الذين أتحيت لهم فرصة التعلّم في الصين، وكانت الصين قد استقبلت في ذلك العام حوالي 200 طالب أجنبي فقط. أما الآن، فقد وصل العدد إلى حوالي 350 ألف طالب من أكثر من 180 دولة، وأصحبت الصين من الوجهات الأكثر شعبية بالنسبة للطلاب الدوليين، والسبب في ذلك يعود إلى جودة التعليم والاعتراف الدولي بجامعات الصين، خاصة أن الدولة الصينية تستثمر مبالغ طائلة في التعليم وتصرف أموالًا كبيرة على الأبحاث في جميع الاختصاصات الأدبية والعلمية، وأنشأت هيكلية متكاملة للتعليم والأبحاث العلمية في جميع المجالات والاختصاصات.

كما أن التكلفة المالية للتعلّم في الصين منخفضة مقارنة مع الدول الأخرى بوجود تسهيلات للطلاب الأجانب لمساعدتهم على الاندماج الاجتماعي والثقافي، مما يوفّر بيئة مريحة للتحصيل العلمي. إضافة إلى أن خريجي الجامعات الصينية يتوفر لهم فرص عمل كبيرة في الأسواق الصينية والأجنبية في مختلف المجالات، خاصة وأن معدلات نمو وازدهار الصين تجعل منها دولة مطلوبة من الشركات العالمية، إذ يوجد حاليًا في الصين أكثر من 5000 شركة عالمية مستثمرة.

على الرغم من أن علاقات الصين مع العالم الخارجي قد طغى عليها الطابع التجاري منذ زمن طريق الحرير إلى الآن، إلا أن الصين من خلال سياستها للاصلاح والانفتاح تسعى إلى تعريف العالم على القيم والثقافة الصينية التي حافظت على وحدة الصين وعلى التعايش السلمي بين مختلف القوميات والديانات الموجودة فيها على مدى قرون طويلة، وساهمت في تحقيق الأمن والرخاء والسلام، إذ يوجد فيها 56 قومية مختلفة مندمجة اندماجًا كاملًا في حب الوطن، تؤكد انتماء الشعب الصيني للأمة وتشجع على وحدة الصينيين الثقافية والوطنية. فالكل صيني الهوية أيًا كانت قوميته أو ديانته، وهو الأمر الذي حقق ويحقق الاستقرار والتقدم والرخاء والازدهار للدولة والشعب. والأهم، أن الصين حققت المساواة بين مواطنيها وجعلتهم شركاءً لها في مشروع التنمية والاستقرار للدولة الصينية، وقد أثمر هذا الاندماج عن نجاح اقتصادي وصناعي وارتفاع مستوى حباة الشعب الصيني.

وفي العام 1978، من ضمن الإصلاحات التي قام بها الرئيس دينغ شياو بينغ، صدر قانون ينص على الاحترام التام لجميع الأعراق والقوميات، فتح بموجبه المعهد الإسلامي وسمح بإصدار مجلة إسلامية، كما فتحت البعثات للحج، وأعادت الدولة ترميم المساجد، وأعطت المسلمين حق العطل في الأعياد الاسلامية، وسمح بإدخال أعداد كبيرة من المصاحف من الدول الاسلامية وتنظيم زيارات متبادلة مع الجمعيات والدول الإسلامية. لذلك، اتفاجئ عندما أسمع من عدد كبير من الناس في المجالس الخاصة بأن الصين تعامل المسلمين بطريقة عنصرية، علمًا بأنه، كما عشت وشهدت، لا يوجد في الصين أي تمييز ديني أو عرقي، فالجميع منصهرون في بوتقة واحدة “الأمة الصينية الجامعة”، وبعكس ما يتم الترويج له عبر الإعلام الغربي ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن القانون الصيني يميّز المسلمين ويتعامل معهم بطريقة أفضل من قومية “HAN” (هي القومية التي تمثّل 93% من الشعب الصيني). فأجور المسلمين أعلى، ولهم الأفضلية في دخول الجامعات من أجل رفع مستوى التعليم لديهم، وقد لمست مدى الاحترام لهم من خلال وجود مطعم خاص للمسلمين في كل جامعة وفي كل حي، علمًا بأنه في بكين وحدها يوجد 40 جامعًا يرتاده المسلمون بشكل يومي ويقيمون صلاة الجمعة وصلاة الأعياد بكل حرية.

تعود عراقة الحضارة الصينية إلى أكثر من 5000 سنة، إلا أن الثقافة الصينية كانت غير معروفة، وذلك بسبب انعزال الصين وعدم انفتاحها على حضارات أخرى لمدة طويلة من الزمن، فلم يكن من أولوليات الدولة الصينية التأثير في الحضارات والثقافات الدولية أو التأثر بها، واكتفت بالتعرف على الحضارات من خلال العلاقات التجارية التي كانت تربطها مع باقي دول العالم من ضمنها لبنان. أما الدول الأخرى، فلم تكن تهتم بتعلّم الثقافة الصينية، انما انحصر اهتمامها بالحرير والخزف والتوابل، والاستفادة من الأشياء العملية مثل الورق والحبر والبارود والبوصلة وغيرها من الاختراعات الصينية.

في القرن العشرين، شهدت الصين تغيرات جذرية أخرجتها من عزلتها، أهمها كان سياسة الإصلاح والإنفتاح التي فتحت للصين آفاقًا واسعة في الغرب والشرق، وسمحت لها في الإندماج في الإقتصاد والسياسة الدولية، ووضعت أسسًا لنشر الثقافة الصينية وتطويرها بما يتماشى مع متطلبات الاندماج الدولي من اللغة والموسيقى والأداب والسنيما وغيرها. وتماشيًا مع حاجة الأسواق الدولية إلى اللغة الصينية، أنشات الصين لغاية عام 0112، 357 معهدًا لتعليم اللغة الصينية منتشرة في حوالي 104 دولة، كما وصل عدد متعلمي اللغة الصينية الأجانب إلى 100 مليون شخص في عام 2011، وتقدر نسبة زيادة الإقبال على تعلم اللغة الصينية في العالم بـ 39% سنويًا، وقد شهدنا في لبنان في السنوات الأخيرة إقبالًا من عدد من المدارس الخاصة والجامعات على تدريس اللغة الصينية للطلاب، وذلك وعيًا منها لأهمية إتاحة الفرص أمامهم للتحصيل الثقافي والعلمي المتخصص في الصين، وإيجاد فرص عمل في إحدى أكبر الدول وأسرعها تطورًا ونموًا في العالم.

كما تعمل الصين في خط متواز على تكثيف مشاركتها في الملتقيات الدولية، وذلك انسجامًا مع شعار الرئيس الصيني هو جين تاو في تقرير الإجتماع السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني “يجب تعميق التبادل الثقافي بين الصين والخارج، وإستلهام الإنجازات الحضارية لمختلف الدول، لتعميق الإشعاع الدولي للثقافة الصينية” وإيمانه بأن “لا صراع حضارات والبشرية تحتاج إلى تضافر الجهود”.

في بداية رحلتي في الصين في العام 1979، كان تطبيق سياسة الاصلاح والانفتاح قد بدأ لتوّه، وعلى الرغم من صعوبة التأقلم في المجتمع الصيني في تلك الفترة، إلا أنني رأيت فيها أكثر من وجهة للتحصيل العلمي، وأكثر من وجهة للعمل، فقد وجدت في الصين غنىً ثقافيًا وتاريخيًا وحضاريًا تعرّفت عليه من خلال علاقات الصداقة القوية التي ربطتني وما زالت تربطني بالشعب الصيني، الذي يتمتع بآداب رفيعة وعالية للثقافات وحب المعرفة واحترام للشعوب الأخرى. فإنطلاقًا من المبادئ التي وضع أسسها القائد تشو إن لاي في العام 1954 أهمّها “الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، عدم الاعتداء المتبادل، عدم التدخل في الشؤون الداخلية بصورة متبادلة، المساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي”، فإن الصينيون يحترمون العادات والتقاليد المختلفة.

من خلال تجربتي الخاصة وتعمّقي في ثقافة هذه الأمة العريقة، وتواصلي المستمر مع هذا المجتمع الضارب في التاريخ والحاضر بقوة في العصر الحديث، أشجع كل الطلاب اللبنانيين على الدراسة في الصين لأنها تغني الفكر وتفتح آفاق كثيرة أمامهم في ظل التحديات التي نواجهها في لبنان، خاصة وأن الصين تعيش ثورة في مجالات الصناعة والعلوم والتكنولوجيا في شتى قطاعات المعرفة الرقمية، الزراعية، الفضائية والعلوم الطبية. كما أدعو في هذه المناسبة إلى خلق فرص مشتركة لنشر فلسفة الثقافة الصينية في بلادنا لأنها تركز على “التناغم” الذي يعد روح الفلسفة الصينية القديمة والمنطق الذي حكم التطور الإجتماعي والسياسي في الصين على مدى قرون، والذي يتمثل بانصهار العوامل الإجتماعية والسياسية والأخلاقية داخل المجتمع والدولة لتحقيق الأمن والرخاء والسلام والانسجام بين المتناقضات، وخلق مجال مشترك بين الناس يضمن تعايشهم السلمي وتماسك المجتمع والدولة من دون التأثر بإختلافات الثقافات. وبفضل هذا “التناغم” بين مختلف مكونات المجتمع، تمكنت الصين خلال السنتين الأخيرتين من إظهار قدرة استثنائية في السيطرة على جائحة كورونا وكبح انتشارها، فالمجهود الجبّار الذي بذلته الحكومة الصينية يدل على وجود استراتيجية صحية مبنية على أسس علمية حديثة لمواجهة الطوارئ الصحية، كما يدل على مدى ثقة الشعب الصيني بحكومته والتزامه بالخطط الموضوعة لتحقيق الأمن الصحي والاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي افتقدته دول كثيرة، وقد تمكنت من خلال هذه الاستراتيجية إنقاذ حياة الملايين من الشعب الصيني مع ضمان استقرار القطاعات الاقتصادية المنتجة فيها، بحيث لم تترك الجائحة آثاراَ تذكر على نموها الاقتصادي، بل على العكس فقد ارتفعت معدلات النمو بنسب عالية.

في مناسبة مرور 50 عامًا على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الصين ولبنان، أجدد فخري واعتزازي بأن أكون رسولًا للصداقة بين الشعبين الصيني واللبناني، وأن اساهم في مد الجسور بين البلدين من خلال مساعدة الطلاب اللبنانيين على إيجاد فرص للدراسة في الصين، والمساهمة في توثيق أطر الصداقة بين الشعبين الصيني واللبناني… عاشت الصداقة الصينية اللبنانية.

لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا

الدكتور جميل حديب

الدكتور جميل حديب وهو طبيب لبناني صيني ويعد أول خريج لبناني في الطب الصيني من جامعات الصين. تم تكريمه في مناسبات وطنية ومؤتمرات دولية لدوره في نشر قيم وممارسات هذا الطب العريق. يشغل مركز نائب رئيس الجمعية العربية الصينية للتعاون والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى