النظام اللبناني نظام منقضٍ بكامل عناصره ومؤسَّساته، التي ما حقَّقت غير الفَشل حتى في إدارة الشؤون الحياتيّة الروتينيّة، فكيف وحال الأزمات الكبرى حينما يقف هذا النِّظام البائِد متخبطاً تارةً بمركزيّة القرار اللامتخصِّص وطوراً بهرج التحليلات وتفسيرات النُّصوص الدستوريّة التي جُعِلَت عقدة هذا الكَيان، و بوابل قوانين أترعَت رفوفَ المكتبات، وخوَت من قوّة زجرها بفرض عدالة متوازنة تجاه جميع أبناء الوطن الواحد.
نعم، يوم كان هذا الوطن مقصد المظلومين ومُغْتَصَبي الحُقوق، ما كان ببال المُنادين بوحدته واستقلالِه، أن لا تتمكن وثيقة دستوريّة، ممنوحة بحبر الإستعطاف والتلجئة بحليتي الوطنيّة والتملّك..من خلق قوميّة واحدة ووطن نهائي.
إنَّ مجرَّد اختلاف أطياف الوطن على وجهِ لبنان، كان ذلك خلافٌ على الكيان قبل أن يصبحَ خلافاً على النظام وشكل الحكم، هنا ظهر المؤشر الدَّامِغ على فشلِ الجمهوريّة وعجزها، أمام الولاءات الخارجية.. وكيف لجسمٍ أن يَحيا بعدَّةِ رؤوسٍ وعدّةِ أوجُهٍ، أ وَ ليسَ من يضع يده على المِحراث لا يلتَفِت للخلف..!؟
ألَسنَا في نظامٍ جمهوريّ..؟ ألم نُنشد استقلالنا الذاتي..؟
حاشا، فلم نكن يوماً كذلك ما دُمنا انتهازيين انتفاعيين استزلاميين انتظاريين لحلولٍ خارجيّة، مُراهنين على تسويات معلَّبة، مُنقادي الإرادة ناهبي ثروات بلادنا، مُفقري شعبنا، ظانِّين أننا في مركز القرار، ونحن نسود ولا نحكم، نجوب العالم لنمتطي الحضارة، وإذ بنا ندفن مجدنا بحفنةِ عملاتٍ صعبة، لنقف في صفِّ العزاء بوطنٍ أعطانا خيرات السَّماء ومجد الأنبياء و نعم القدِّيسين وما هنأ لنا بالٌ إلا وخضعنا لسطوة الهلع .. و سِرنا بحسب إملاءاتِ الخارج و رغباته المبيّتة، لا ضمائرنا ولا مصلحتنا الوطنيّة حتى، مقتنعين بكلّ ما يدرُّ علينا بحفناتِ قروشٍ مقابل رهنِ كلّ شيء، فوطِئنا الجحيم راقصين بينَ الحُبورِ والخوف..
أيّ نظامٍ بإمكانه انتشالنا من مستنقع الأنانيّة والتجبُّر، أيّ دستور ولو صكَّ بدمٍ ثمين يُلزِم جموح المتسلّطين، أيّة تعويذةٍ يمكنها فكَّ عُقدنا الوطنيّة..!؟
أيُّ.. و أيُّ تاريخٍ حافِل من الصّراعات السياسيّة التي صبغت الحَقبة الوطنيّة الحديثة، و لم يدمغ فينا غير الفشل دون الإعتبار، بأحداث قوَّضت الجمهوريّة لتكشف عوراتها.. من حرب ١٩٤٨.. لأزمة ١٩٥٨.. إلى حرب ١٩٦٧.. وصولاً لأزمة ١٩٦٩ واتفاقية القاهرة.. إلى حرب ١٩٧٣ واتفاقية كامب دايفيد.. إلى حرب السنتين ١٩٧٥ ـ ١٩٧٦.. فمرحلة الدخول السوري ١٩٧٦.. وإجتياح إسرائيل للبنان سنة ١٩٨٢..ليتكرّس اتفاق الطائف الإشكالي بُعيد حرب ١٩٨٩-١٩٩٠ نحو الهيمنة السوريّة الدوليّة.. وعملية عناقيد الغضب حرب نيسان ١٩٩٦.. فالحرب الإسرائيلية على لبنان ٢٠٠٦.. فمعارك نهر البارد ٢٠٠٧ .. فأحداث السابع من أيار ٢٠٠٨ ..إلى اتفاق الدوحة ٢١ مايو ٢٠٠٨ .. و خناق النزوح السوري ٢٠١١/٣/١٥ وتبعاته المستمرّة.. في ظل خلو الساحة من رعاية دوليّة تلهَّت بتسوياتها الكبرى، وترك لبنان يتخبّط في أزماته وما حلّ فيه من تصفيات سياسية بعد أن حاولت يد الإرهاب والتطرف قضم خاصرته، فكانت عملية فجر الجرود ١٩ آب ٢٠١٧ وما إن أحرزت، حتى بدأت مرحلة الصِّراعات السياسيّة وشل المؤسسات الدستوريّة إلى حين انطلاق ثورة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ وما تبعها من تقويض للإقتصاد و انهيار للعملة وحجزٍ لأموال المودعين وتهريب الرّساميل بأكبر عملية نهب ممنهجة وإفقار لشعب في التاريخ، مع اجتياح جائحة كورونا الوطن المُنهك الرَّازح تحت وطأة أكبر أزماته الإقتصاديّة دون أيِّ تداركٍ استباقي للتعاطي مع فقدان المناعة على كافة الأصعدة ليأتي تفجير مرفأ بيروت في ٤/آب/ ٢٠٢٠ ويكشف أكبر عورات النظام و ينعي ما تبقى من سيادة مصطنعة في بلاد الحرف.
حتى هذه المرحلة، أصبحت القناعةُ راسخةً، بأننا عاجزين عن إدارةِ ذَواتِنا بمفردنا..في ظلِّ خلوِّ السَّاحة الوطنيّة من راعٍ دوليٍّ، فتهاوت الجمهوريّة رويداً رويداً نحو التحلُّل، و سقطت، يوم عجزت المؤسسات الدستوريّة عن الحكم، و عجزت يوم شُلَّت السلطة القضائية، أمام تدخلات السُّلطات الثلاث السياسيّة والماليّة والطائفيّة، فأيُّ نوعٍ من الأنظمة قد ينجع بعد؟
في خضم الأزمات المتشعبة التي تعتري جمهوريتنا أأزمة نظام، أم أزمة ميثاق، أم أزمة صيغة..؟ أم الأزمة أزمة كيان و التي استبعدت يوم أعلنت دولة لبنان الكبير..!؟
للأسف، لم تزدنا الأحداث منذ ١٩٤٨ حتى اليوم مناعةً، بل مزيداً من الفقر وسطوة القوي وزيادة الشَّرخ بين طبقتي المجتمع (الغنيّة والمُعدَمَة)، وهذه سيناريوهات المتحكّمين بالسلطة اللبنانيّة، سيناريوهات الخوف والحاجة، لإحكام سطوتهم أمام كل تسوية خارجيّة فيشعلون وأد الأزمات ليحجزوا لهم مكانة في تطبيق الحلول، أليست ظروفنا اليوم شبيهة بسيناريو ثورة ١٨٤٠ بين الأحزاب السائدة ضمن ذات الطائفة و١٨٤٥ بعد تفشي الفقر واستفحال الفوقيّة الإقطاعيّة و١٨٦٠ الطائفية المقيطة، التي أرست نظام المتصرفية..
الذي صمد ٥٧ عاماً ( ١٨٦١ ـ ١٩١٨ ) وحقَّق من النموّ الفكري والثقافي والحضاري والعمراني بإمداد الخارج، ما لم تستطع جمهوريّتي لبنان الكبير الأولى ( ١٩٤٣) والثانية ( ١٩٩٠) من الحفاظ عليه.
لمن يتساءل عن جدوى هذه المقاربة، كون جمهوريّة ١٩٤٣ أتت بعد استقلالٍ وتحرُّرٍ من تبعيّة أجنبيّة، فليَيقَن أنَّ الوصاية والإشراف الدوليين ما زالا يتحكمان بمصير الجمهوريّة، لعلها متصرفية لبنان الكبير التي عبرها تُضخُّ جرعات الأوكسيجين في رئتي الوطن.. فسبعة عشر حكومة منذ الطائف حتى اليوم بمعدل حياة أطولها السنتان والنصف، قد ورّثت الانهيار الذي كان قد بدأ في عام ١٩٨٥ ليستمر دون أن تموت الدولة، فاجتنى لبنان قسطاً من الرعاية الدوليّة بعيد العدوان الإسرائيلي على أراضيه في العام ١٩٩٦ حيث دفعت مسيرة الإعمار بقروض الدول المانحة، وفجأة ظهرت المشاريع ورست المناقصات فكانت البداية مع خمسة مليارات دولار كوعد في مؤتمر أصدقاء لبنان ليظهر بالحقيقة أنَّ ملياراً واحداً فقط سيُمد به لبنان لتبدأ مرحلة الإستدانة المهلكة..على أمل جداوى النمو البديل، إلا أن حسابات البيدر جاءت تنقض كل مقادير الحقل، فنشأت المحاصصة والتهرّب الضريبي والتوظيف العشوائي والفساد، وبمجمل الأحوال فالإستراتيجيا الظرفيّة الدسمة، قادت السياسات الإجرائيّة في البلاد..
سارت خطط الإستدانة من الخارج كركيزة للنهوض بمشاريع الحكومات باجتراح مديونيّة جديدة فكان المؤتمر الباريسي الأول (باريس ١) عام ٢٠٠١ تبعه ملحق إضافي في العام ٢٠٠٣ (باريس ٢) لكن دون جدوى إلا على مستوى الماليّة العامة وزيادة الثروات السياسيّة واضمحلال الطبقة الوسطى.. وغياب دعم الإنتاجيّة.
و أمام استفحال الفساد وتوسع هوّة الهدر و انعدام اكتراث المجتمع الدولي بالإستمرار بدعم لبنان، حتى وضع مطلب الشفافية كأساس للدعم مكان مؤتمر سيدر الذي انعقد في السادس من نيسان ٢٠١٨ بمشاركة أكثر من ٤٨ دولة ومنظمة حكومية وخاصة. أعربوا حينها عن ضرورة استمرار الصيغة اللبنانيّة مع علمهم المسبق بعدم جدواها كضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية..
جدليّة لبنان الأزلية المستمرّة تكمن في الدعم الخارجي والإستقواء بالخارج، والوصاية الخارجيّة والإرتهان الخارجي بودائع المراكز، والمناصب الكبرى، والتحكم بمركزية القرارات والحكم الفعلي، وهذا ما يفسر أزمات الحكم عند كل خلاف دولي وإقليمي بين الدول الراعية والمهيمنة وما يسببه من شللٍ وقُصرٍ في الإدارة..
لبنان اليوم في أزمة حكم وصيغة، في مرحلة ضياع كبرى أفضت لتكشف عجز الجمهوريّة عن إنتاج مؤسساتها الدستوريّة، وعجز المؤسسات السائدة عن لعب دورها المجترح دستوريّا في ظل الإنقسام وتأويل النصّ ومشكلة التعدديّة، ومركزيّة القرار اللامتخصِّص، أضف أن القرار الخارجي اليوم غافل بانتظار تسويات كبرى تعيد رسم العلاقات الدوليّة ما يعني أننا لم نخرج للحين من بروتوكول المتصرّفية، متصرفية لبنان الكبير ربما تختلف لناحية الدول الراعية الوصيّة حتى حدوث تجاذبات كبرى وأطماع في هذا البلد لامتصال مقوماته وامتصاص ثرواته النفطيّة وحتى قطاعه المصرفي قد تم هدمه وإفقاده عنصري المناعة والثقة ليصبح متاحاً لسطوة الخارج المتلهف للإستثمار في وطن الإستهلاك والريع..
من يبحث في تاريخ الأمم، ييقَن حتماً أن الأوطان لا تُبنى بتفاهماتٍ بل بقناعاتٍ راسخة.. و من يدرس الحالة اللبنانيّة، يعلم علم اليقين، أنَّ ما يُعطَى ويوهَب ويُنعم ويُجاد ويُسخَى ويُكرم به ، ويُمنح لقاء منافع غير معلومة إلا في طيَّات النّوايا، سرعان ما يُؤخَذ و يُحجَم و يُدرَك ويُمسَك و يُكَفّْ ويشُحّ..
و يَعلَم إضافةً، أنَّ سُلطاتنا المحليّة تسود ولا تحكم، ويوم كُفَت يدها اجتَرحت سيناريوهات الهلع لإعادة سطوتها..
فلبنان الجمهوريّة أثبت قُصره، عن إنتاجِ سلطةٍ تحقِّق سلطان القانون، والإنماء المتوازن والنموّ الحقيقي، دون اللّجوء للتعويم والإستجداء واستعطاف الدُّول و موسّساتها الدوليّة.. ما أبقاه في إطار المتصرّفيّة مع اختلاف الحدود والصيغة المكتوبة، أمّا تلك المُمارسَة فزادت استفحالاً واستجداءً وارتهاناً، فأيُّ مستقبلٍ نصبو إليه بعد..؟!
تعليق واحد