ازمة لبنانالاحدث

من الودائع إلى رأس المال الخاسر | بقلم القاضي عصام ضاهر والمحامي د. باسكال فؤاد ضاهر

مع أن القوانين اللبنانية النافذة تتضمّن القواعد الكافية والوافية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ولا سيّما أن الفكر المصرفي الدولي لم يبتكر بعد آليات جديدة في هذا المجال سوى تلك المرتكزة على التمويل الذاتي بشقّيه، أو وضع اليد، أو الدمج والاندماج؛
وإذ إن هذه الوسائل منصوص عليها صراحةً في التشريعات اللبنانية، ويمكن الرجوع إليها وتطبيقها في أي وقت؛
رغم ذلك، فإن مشروع القانون المتعلّق بـ”إصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”، الذي أعدّته الحكومة اللبنانية وأحالته إلى مجلس النواب بتاريخ 4 نيسان 2025، جاء ليقترح نظامًا لإعادة الهيكلة يمكن وصفه بأنه غريب وشاذّ عن أحكام كتلة المشروعية المعمول بها في الدولة اللبنانية.

إن المشروع، لا سيّما في مادتيه 13 و14، يُجيز تجاوز المبدأ الجوهري لحكم الوديعة ويعاملها — من دون أي مسوّغ قانوني — كاستثمار. علمًا أن هاتين المادتين يجب أن تُقرأ بالترابط مع المادة 38  من المشروع، التي تعلّق صراحةً تطبيق مجمل القوانين التي تشكّل ما يُعرف بكتلة المشروعية الناظمة للودائع، وهي: قانون التجارة البرية، وقانون النقد والتسليف، وقانون الموجبات والعقود، والقانونان رقما 2/67 و28/67، بالإضافة إلى القانون رقم 110/1991.

ويُعدّ هذا التوجّه تطوّرًا بالغ الخطورة ومثيرًا للجدل من الناحية القانونية، إذ إن مواد القانون المقترح تعتبر أنه بالإمكان التعامل مع ودائع المصارف — وخصوصًا في ظل الأزمة المالية — كأدوات استثمارية. وهو ما يفتح الباب قانونيًا أمام تحميل المودعين جزءًا من الخسائر عبر اقتطاعٍ (haircut)، أو تحويل جزء من ودائعهم إلى أسهم (bail-in)، أو تجميدها لفترات طويلة الأمد، أو تحويلها إلى سندات بأجل غير مضمون.

علماً أن آلية الإنقاذ الداخلي، كما أشارت إليها المادة 13، تعني ما يلي:

إما تخفيض قيمة “الأموال الخاصة” (مثل رأس المال أو الاحتياطات) و/أو المطلوبات (مثل المتوجبات للمودعين أو الدائنين)، بشكل جزئي أو كلي؛

أو تحويل هذه المطلوبات إلى أدوات رأسمالية (مثل تحويل الديون إلى أسهم في المصرف)؛

وقد يشمل هذا التخفيض أو التحويل الفوائد المستحقة أيضًا، أي ليس فقط أصل الدين.

أزمة مفتعلة بأدوات قانونية منحرفة
بادئ ذي بدء، يقتضي وضع توصيف قانوني دقيق ومقتضب للأزمة التي يعيشها القطاع المصرفي والمالي في الجمهورية اللبنانية، باعتبار ذلك منطلقًا أساسيًا لأي مسعى للحل، ومن خلاله يمكن الولوج إلى قراءة نقدية للنص موضوع الدراسة.

وهو أمر يستدعي تعليقًا قانونيًا معمقًا، لا سيما وأن مشروع القانون يتضمن مخالفات دستورية وقانونية جوهرية يمكن إيجازها على النحو الآتي:
إن الأزمة التي يعاني منها القطاع المصرفي والمالي في لبنان هي أزمة مفتعلة، نشأت نتيجة أخطاء قانونية جسيمة، وذلك للأسباب التالية:

لأنها نتجت عن مخالفات قانونية فادحة ارتُكبت بمشاركة حرّة من قِبل عدد من المصارف؛

لأنها لم تكن غير متوقعة أو ناتجة عن ظروف خارجة عن الإرادة؛

لأنها لا تندرج ضمن الأزمات الناتجة عن أحداث خارجية أو أجنبية، وهو ما يميزها حكمًا عن سيناريوهات “تدحرج أحجار الدومينو” أو ما يُعرف بنظرية “البجعة السوداء” (Black Swan Theory)؛

لأنه توجد مصارف لا تزال تُصرّح بأنها على أتمّ الاستعداد للتسديد، ما يعني أن الأزمة لا تشمل القطاع المصرفي بأسره، بل تنحصر في المصارف التي خرجت كليًا عن أحكام القانون؛

لأن السلطات اللبنانية نفسها، بكل مكوّناتها، اعترفت بأن الأزمة غير نظامية، وهو ما ورد صراحة في الأسباب الموجبة لمرسوم ردّ قانون السرية المصرفية الصادر عن رئاسة الجمهورية إلى مجلس النواب، حيث جاء حرفياً: “إن الأزمة لم تنشأ فقط عن الجرائم المالية، إنما أيضاً عن مخالفات مصرفية متعدّدة ومزمنة.” وقد أخذ المجلس النيابي بهذه الأسباب، وعلى أساسها أعاد بحث القانون وأقرّ التعديلات المطلوبة لاحقًا.

إنتهاك للملكية الخاصة ومخالفة دستورية
وعلى ما تقدم، نوضح أنّ النص موضوع التعليق يشكّل خرقًا لحق الملكية:
فإن إضفاء صفة “الاستثمار” على الوديعة يتضمّن بحدّ ذاته تعدّيًا على الملكية الخاصة، وهو حق مكفول في الدستور اللبناني وفي المواثيق الدولية التي وقّعت عليها الدولة، بما في ذلك المادة 15 من الدستور اللبناني. ولا بدّ من التأكيد على أن الحق بالملكية هو حق طبيعي ومتأصل في الذات، ومكانته راسخة في مقدّمة الدستور اللبناني.

وقد أسبغت هذه المادة الحماية على الملكية الخاصة ومنعت انتزاع ملكية أحد إلا لأسباب المنفعة العامة، لا الخاصة كما جاء في المشروع المحال من الحكومة، وبعد تعويض أصحابها تعويضًا عادلًا. علمًا أنّ احترام الملكية الفردية يُعدّ جوهر النظام الليبرالي الذي اعتمده الدستور اللبناني، وقد جرى ترسيخه في عدّة اتفاقيات ومعاهدات دولية تُعدّ جزءًا من القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومنها:

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (UDHR) لعام 1948، الذي نصّت المادة 17 منه صراحة على ما يلي:

لكلّ شخص حق في التملّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.

لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفًا.

العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) لعام 1966.

الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) لعام 1950، التي تحمي المادة الأولى منها حق كلّ شخص في التمتّع السلمي بأملاكه، وتضع قيودًا على مصادرة الملكية إلا للصالح العام ووفقًا للقانون.

الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (CADH) لعام 1969، في المادة 21 منها، بالمعنى نفسه.

يشكّل النص كذلك تناقضًا مع مبدأ ذي قيمة دستورية، يتعلّق بعدم دستورية رجعية القوانين، إلا إذا كانت في مصلحة الأشخاص المعنيّين بها. فطالما أنّ العقود أُبرمت ضمن أحكام نظام قانوني يرعى مؤسسة الودائع ولا يعتبرها استثمارًا، فإنّ أيّ مسّ بهذه الحقوق يُعدّ مخالفة لمبدأ عدم رجعية القوانين.

أيضًا، يشكّل هذا النص مخالفة لمبدأ الأمان القانوني، وهو من المبادئ العامة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. ويقضي بأن يتعامل الأفراد بين بعضهم البعض ومع الدولة ضمن آلية تقوم على الثقة بثبات القوانين والحقوق.

إضافة إلى ما تقدّم، فإنّ هذا النص يُعدّ خرقًا لمبادئ قانونية راسخة، إذ من الناحية القانونية المستقرّة، تُعدّ المؤسسة القانونية لحكم الوديعة، ووفقًا للقوانين الناظمة، وخصوصًا المادة 307 من قانون الموجبات والعقود، عقدًا يلتزم فيه المصرف بردّ ما أودعه العميل عند الطلب أو في وقت محدّد، وهي بالتالي:

لا تتحمّل أيّة خسارة.

ليست علاقة شراكة: إذ لا تتضمّن العلاقة مخاطرة أو ربحًا، إلا إذا تم تحويلها صراحة إلى عقد مضاربة.

حق شخصي مكتسب: لا يمكن المساس به بأثر رجعي.

المخالفات القانونية وانعكاساتها على المودعين
ومن المفيد الإشارة أيضًا إلى أنّ الوديعة تختلف بكيانها وبنيانها القانوني عن اعتبارها استثمارًا. وأصدق ما يدل على طبيعتها، ما جاء في الأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف، إذ ورد فيها أنّ استرداد المودع لوديعته المنصوص عليها في المادة (307) يتمّ “تمامًا كاستردادها من صندوقه الخاص”، وتحت عنوان “القواعد الأساسية لتسيير العمل المصرفي السليم”، جاء ما يلي:
“تشكّل الودائع أساس مورد كلّ مصرف، بيد أن بقاءها ونموّها لدى المصرف هما جوهريًا قضيّة ثقة، ثقة المودعين المرتكزة على اليقين من أنّ أموالهم في المصرف هي في مأمن، مثلها كمثل الأموال في صندوقهم الخاص (as good as cash)، لأنّه في وسعهم التصرّف بها في كلّ حين أو في المهل المتفق عليها. وهذا هو نفس التعهّد الذي يرتبط به المصرف تجاههم بموجب عقد الإيداع. وهذا الموجب يطرح على المصرف مسألة السيولة، التي تعني أن يتمكّن من جعل موجوداته جاهزة سريعًا وبدون خسارة.”
علماً أنّ هذا التعديل لطبيعة الودائع يمتد أيضًا إلى تعديل عقد فتح الحساب بأثر رجعي، وهو ما يُعدّ مخالفة قانونية صارخة لمبدأ استقرار المراكز القانونية:

لأن هذا النص يُحمِّل المودعين نتائج أخطاء قانونية لم يرتكبوها: فهو يحاول تحميلهم خسائر الانهيار المالي، وكأنهم شركاء في إدارة المال أو موافقون مسبقًا على تحمّل المخاطر، في حين أن الواقع يُظهر أن معظمهم من أصحاب المدخرات أو المعاشات التقاعدية، ممن لا علاقة لهم بالمضاربة أو الاستثمار.

انتقاصٌ من دور العدالة وتغييبٌ للمسؤولية: إذ بدلًا من محاسبة المسؤولين عن الانهيار المالي والسعي إلى استرجاع الأموال، اتّجهت الإرادة التشريعية إلى المسّ بالعنصر الأضعف، من خلال شرعنة تحويل الودائع إلى “رأس مال خاسر”، في محاولة للتهرّب من دفع الحقوق كاملة. وهو ما يشكّل انتهاكًا لمبادئ العدالة والإنصاف.

خطرٌ على الثقة بالنظام المصرفي: فهذا النص من شأنه أن يقوّض ما تبقّى من ثقة بالنظام المصرفي اللبناني، ويتعارض مع المبادئ التي يقوم عليها المال الدولي، والذي لا يستقر إلا في كنف دولة القانون. كما يزعزع الثقة المستقبلية بالمصارف اللبنانية على المستويَين المحلي والدولي. إذ كيف يمكن الوثوق بطبيعة عقد الوديعة، ما دامت الحكومة قادرة على تعديله بأثر رجعي وتحويله إلى أداة خسارة؟

خطر التعرّض لموجة من الدعاوى القضائية داخليًا وخارجيًا: ذلك أن هذا النص، بما يكرّسه من نهج الإفلات من المحاسبة، عبر تحميل المودعين عبء الانهيار من دون تحديدٍ واضحٍ للمسؤوليات، قد يفتح الباب واسعًا أمام دعاوى ضد الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف في الداخل والخارج.

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر هو محامٍ لبناني بارز، واستاذ محاضر في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية متخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية والأجهزة الرقابية المرتبطة بها. حصل على درجة دكتوراه دولة في الحقوق من الجامعة اللبنانية . إلى جانب ممارسته القانونية، يشارك الدكتور ضاهر بانتظام في محاضرات وندوات تتناول الأزمة المالية في لبنان، مسلطًا الضوء على التحديات الاقتصادية والمالية التي تواجه البلاد. كما كتب ونشر مقالات ودراسات علمية متعددة شرحت بواطن الازمة اللبنانية وتوصيفها القانوني وسبل علاجها من الناحية القانونية وتعليقات على مشاريع واقتراحات قوانين وعلى قرارات قضائية، اضافة الى تعليقات قانونية منها الصادرة عن المحاكم الدولية لا سيما منها محكمة العدل الدولية والمجلس الدستوري وقد نشرت في عدد من الجرائد والمجلات المتخصصة، كما قدم العديد من الدراسات حول مواضيع دولية متعددة متصلة بتفعيل اطر الرقابة الامثل على القطاعات المصرفية والمالية وحول مواضيع مثل ارتفاع أسعار الذهب العالمية واسبابها. تقدم ايضا بمراجعات نموذجية سواء أمام مجلس حقوق الإنسان الدولي التابع للأمم المتحدة بالاصالة عن نفسه والتفويض عن عدد من زملائه بموضوع اعتبار ان استقرار النقد يعتبر حق من حقوق الإنسان وشكوى أخرى بموضوع مكب برج حمود، او امام القضاء اللبناني بوجهيه العدلي والاداري، وقد فرض الرقابة القضائية على تعاميم المصرف المركزي وايضا فرض حجز الاحتياط الالزامي لمنع هدره بسبب صلته بحقوق المودعين في المصارف التجارية. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الدكتور ضاهر، الضوء على التناقضات القانونية المحتملة في هذه التعاميم . وقد اتبع الدكتور ضاهر في كتاباته الأسلوب المقتضب غير المسهب الذي يصل مباشرة الى ذهن الباحث والمطلع؛ تُظهر هذه الأنشطة التزام الدكتور ضاهر بتعزيز الشفافية والمساءلة ومنع الافلات من العقاب وتعزيز حكم القانون في القطاعين المالي المصرفي والقانوني في لبنان، وسعيه المستمر لمعالجة التحديات القانونية والاقتصادية التي تواجه البلاد. يذكر ان: - الدكتور ضاهر كان قد استحصل عام ١٩٩٧ على تنويه وجائزة من وزير التربية لفوزه على طلاب المدارس بإعداد بحث مكتوب عن البيئة. - منحه المعهد العالي للدكتوراه في الشرق الأوسط منحة لاتمام دراساته وابحاثه في فرنسا لجامعة Pierre mendès .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى