ازمة لبنانالاحدث

وزارة الثقافة… هذه الجوهرة اليتيمة | بقلم هنري زغيب

في سائد تشكيل الحكومات اعتدْنا أَنْ حينَ رئيسُ الحكومة المكلَّف يبدأُ باستشاراته النيابية غير الملْزِمة محتفظًا باختياراته التي يريدُها مُلْزِمة، يروح “بيت بو سياسة” يتلاهفون حول قالب الجبنة مطالبين بحقيبةٍ “سيادية” أَو “خدَماتية” أَو “أَساسية”، وإِذا زاد كرَمُ ضميرهم يرضَون مكرَهين بحقيبة “ثانوية”. ويتسابقون انقضاضًا، دُيُوكًا هائجة، لتَقاسُم قالب الجبنة، مشيحين كلِّيًّا عن أَيِّ حقيبةٍ تواقحَ أَحد المواقع الإِلكترونية فسمَّاها وزارةً “لايت”.
ومن هذه الـ”لايت”: وزارة الثقافة. لا يطالبُ بها أَحدٌ من “بيت بو سياسة” لأَنهم يعتبرونها ليست “سيادية” ولا “خدماتية” ولا “أَساسية” بل هي في رأْيهم هامشية لا نفعَ لهم منها، هم الذين: عين على التشكيلة وعين على أَيار 2026 وبوانتاجاتهم الانتخابية المحلية فيه.
إِنهم إِذًا لا يَحسبون ما يمكن أَن يُفيدوا البلاد من تَوَلِّيهم هذه الحقيبةَ الوزاريةَ أَو تلك، بل يَختَفون مرةً خلْف حجة “وحدة المعايير”، ومرةً خلْف التهديد بالمقاطعة، ومرةً خلف الانتقال إِلى المعارضة، وهم بهذه الحجج وسواها يَحسَبون كيف سيُرشِّحون للحقائب مَن يُبَكِّل سترته ويقول منحنيًا أَمامهم: “أَمرك سيدنا”، فيَصدر الإعلام عند التشكيل بأَن هذا الوزير مدعومٌ أَو من حصة هذا السياسي أَو كُتلته، أَو محسوب على هذا السياسي أَو كُتلته. ويبدو أَن وزارة الثقافة لا تنفعُهم لمكتَسباتهم السياسية.
ولو انهم يتعالَون إِلى رفْعة من ضمير وطني، لأَدركوا أَنَّ وزارة الثقافة بدورها الحضاري هي سياديةٌ ورئيسة، وخدماتية لا للمحاسيب والأَزلام بل خدماتيةٌ للوطن على أَرضه ولدى جميع الـمَهاجر اللبنانية في العالَم.
إِنها الوزارة المرآة، تعكس للعالم لبنان الفكر والإِبداع آدابًا وفنونًا ومبدعين ماضيًا وراهنًا يُنتِجون في جميع الحقول المعرفية الثقافية وينجحون وينصِّعون في لبنان وفي العالم صورةَ لبنان الحقيقي الخلَّاق المتمايز المغاير. والحاكم الرؤْيوي يقدِّم معتزًا هذه المرآة للعالم.
ذات يوم قال صحافي لرئيس فرنسا الجنرال ديغول: “تترأَس جلسة الحكومة وإِلى يمينك وزير الثقافة أَندريه مالرو، فيما هذا المقعد هو لرئيس الحكومة”.
فأَجاب ديغول بهيبة الرئيس الرؤْيوي: “مش صحيح أَنَّ مالرو إِلى يميني… أَنا أَجلس إِلى يساره”.
وسرى هذا الجواب مثَلًا لكلِّ حاكمٍ يقدِّر أَهمية وزارة الثقافة في بلاده. وحين كنتُ أُتابع “بيت بو سياسة” يُشاحنون الصديق نواف سلام باعتراضات ومحاصصات واختراقات واستنسابيات وعقبات ومناكفات وحلحلات وتعقيدات وسواها من المماحكات، لم أَعرف أَنَّ أَحدًا منهم طالبه بالحصول على حقيبة وزارة الثقافة شرفًا له ومن يرشِّحه لها.
وإِذا كانت الوزارات في معظمها شُغْلَ أَهل السُلطة كي يخدُموا الدولة بشؤُونها الراهنة إِنما العابرة بعد حين، فوزارةُ الثقافة تخدُم الوطن لا الدولة، وإِنجازاتها في خدمة الوطن باقيةٌ راهنًا ولاحقًا بما يَجعلها منارةَ كل حكومة تتشكَّل في خدمة لبنان الحضارة والتراث.
ومن الآن حتى يصبحَ عندنا طقمٌ سياسي مُتَنَوِّرٌ مثقَّفٌ حضاريٌّ غَيريٌّ غيرُ أَنانيّ، ستَبقى وزارةُ الثقافة جوهرةً يتيمةً، ونحن المقدِّرونها سنبقى حرَّاسَ هذه اليتيمة.

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى