ألمانيا الجديدة : الحرب دفاعًا عن أوروبا | كتب د. محيي الدين الشحيمي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا اضمحلّت الحيرة الألمانية بعدما كانت على مفترق صعب، ووصلت إلى قناعة ثابتة بأنّها لا تستطيع أن تكون عملاقًا أوروبيًا ودوليًا من دون أن تحظى بقوّة عسكرية، وبأن تبقى مهادنة لروسيا. لذلك أصبح الصعود العسكري الألماني حاجة ضرورية، ولا سيّما بسبب الوهن الأوروبي. فالموافقات الأوروبية على تسليح ألمانيا قد تمّت من دون أيّ اعتراض، وبشكل خاص من الجانب الفرنسي، في محاولة لامتصاص الصدمة والشعور بالتهديد الوجودي الروسي لأوروبا ولحلف شمال الأطلسي. فالأوروبيون يعطونها الثقة على الرغم من أنّ “التاريخ يشير إلى أنّ صعود ألمانيا كان دائمًا حافزًا إلى التوسّع ونشوب الحروب العالميّة”.
فهل نسيت أوروبا ذلك؟ وكيف بالإمكان ترجمة هذا التغيير لوجستيًّا من دون حرب؟
هل تستمرّ ألمانيا بقبولها للموروثات التقسيمية للنظام الدولي منذ سنة 1945، أم تحاول تغييره؟
ليس ما قبل الغزو كما بعده مطلقًا. فقد كسرت ألمانيا بإرسالها الأسلحة إلى أوكرانيا لمبدأ مهمّ هو “رفض إرسال الأسلحة إلى مناطق الصراع”
لفترات كثيرة ساد تناقض في روحية الاتحاد الأوروبي وقوميّته المتشابكة بالتخوّف بشدّة من ألمانيا النائمة والخافتة والمترهّلة أكثر من التخوّف من ألمانيا القوية. فهنالك إجماع جيوسياسي يقضي بأنّ أرجحيّة أوروبا الموحّدة والسلمية تكون بوجود ألمانيا القوية.
نحن إذًا على مشارف سلوك جديد. فألمانيا الجمهورية الاتحادية وقلب الاتحاد الأوروبي ومحوره الاقتصادي تعلّمنا بصدق بأنّ العالم الذي تعرّفنا عليه منذ الولادة قد شرع في تبديل جلده وطرق باب التغيير. فأوروبا لم تعد الآن كما كانت ولن تصبح مستقبلًا كما كان معهودًا ومتفقًا عليه من قبل, بل هنالك تجلّيات جديدة لشكل مختلف من المصالح القومية، وتشبيك آخر لمنطق واقعي من السياسات الدولية. فالاجتياح الروسي لأوكرانيا حدث مفصليّ وحيويّ مؤثّر جدًّا ضمن هذا السياق على المسرح العالمي.
توحيد أوروبا “الألمانية”
قبل الحرب الروسية على أوكرانيا كان النقاش العام يعكس لنا صورة أوروبا المنقسمة والغامضة والضعيفة، ولا شكّ أنّ كلّ تلك الصور حقيقيّ.، فمنافسة اليمين المتطرّف في صناديق الاقتراع بقوّة، وهو لغير مصلحة الاتحاد، وخروج بريطانيا من الاتحاد وتأثيره السلبي واحتمالية اعتماده نموذجًا يُحتذى به من بعض جيرانها، وتوصيف فرنسا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنّه “ميت”، وحماسة ألمانيا لخطّ أنابيب “نورد ستريم 2” لضخّ الغاز الطبيعي من روسيا مع تجاهلها للانتقادات الأميركية وترجيحها لأفضلية التفكير أكثر في الاقتصاد واعتبارها أنّ السلام الأوروبي لا يكون ولا يحلّ بدون روسيا، وإصرارها على الاستمرار في نهجها “السلمي” الذي يوصف “بالمفرط” على الرغم من الملامة، وما ذلك إلا هربًا من ماضيها النازي… كلّ ذلك أظهر الغرب الأوروبي منقسمًا على نفسه إلى أن أتى الاجتياح.
كانت هنالك عدّة تساؤلات في ألمانيا خصوصًا، وفي أوروبا عمومًا، عن مجموعة من الإشكاليات المتسلسلة حتمًا والمترابطة حكمًا والتي تحتاج إلى أجوبة، بدءًا من الطاقة وجائحة كورونا والرفاهية الاقتصادية ونماذج التعافي والعدالة الاجتماعية والقيم والمثل الإنسانية. فكانت الإجابة الألمانية الانقلابية هي الحدّ الفاصل: هنالك ثمن للحريّة.
كان السبب وراء تخلّي ألمانيا عن اعتمادها على “نورد ستريم 2” الجرعة الزائدة من الثقة الأوروبية وحتى الدولية بها ومساعدتها في إيجاد البديل. وكان الثمن هو الدعم الدولي والقبول الأوروبي بتسلّحها وتقدّمها صعودًا على المسرح الأوروبي من جديد بوصفها عملاقًا. وتناسى الجميع العقدة من توحيد ألمانيا عبر التاريخ. فأوروبا تعيش دائمًا هاجس الخطر من الصعود الألماني، وهنالك حذر تاريخي بيقين خافت من توحيد ألمانيا.
سنشهد بعد هذا الاجتياح الروسي لأوكرانيا انقلاب ألمانيا على ذاتها، فهي لن تعيش أبدًا في جلبابها القديم، ولن تقبل بذلك، ويبدو أنّها على مشارف ارتدائها لجلبابها السادس الجديد
فبعد توحيدها في الماضي على يد بسمارك وارتفاع نزعتها القومية وشعورها الأممي وجنوحها نحو التسلّح، تسبّبت ألمانيا بالحرب الكونية الأولى، وأدّى تسلّحها في المرّة الثانية إلى ارتفاع النزعة النازية والقومية الجرمانية وتوغّل هتلر وقضمه لأراضي جيرانه وأقربائه، فكانت الحرب العالمية الثانية.
على الرغم من كلّ ذلك تغيّر الأمر كلّه نتيجة للاجتياح الروسي. فألمانيا والأوروبيون مستعدّون لخسائر اقتصادية في سبيل أشياء أهمّ مثل الحرية والديمقراطية.
نسيان “النازية” أمام بوتين
أدّت هذه العملية العسكرية إلى حصول انقلاب في النموذج الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي في ألمانيا وخروجها بشكل ممهّد من “قمقم سلبيّتها بسبب نبذها الماضي النازي”. فهي كانت تنفر بشكل دائم من الصراعات العسكرية، وتتمسّك باستمرار بسياسة خارجية تقوم على “الدبلوماسية وتوازن الاحتياجات الأمنية”. وقد آمنت لعقود من الزمن، وبالأخصّ منذ سقوط جدار برلين، بأن لا راحة لأوروبا وفيها باستبعاد روسيا، لكنّها اليوم تنتفض وتنقض كلّ تلك المبادئ الكلاسيكية بعدما عزمت حكومتها على تعديل وتبديل وجهة نظرها المتّصلة بالنموذج الدفاعي، وبشكل أهمّ بسياساتها الخاصة بالطاقة، منقلبةً على نصف قرن من الثبات السياسي بإلغائها موقفها اتّجاه روسيا. وأعادت ألمانيا النظر في مكانتها في العالم، وعادت عن سياسة “اللاعسكريات” التي تعود إلى نصف قرن خلا.
لم يغيّر غزو روسيا لجورجيا في العام 2008 من مواقف ألمانيا. فصحيح أنّها قادت عقوبات ضدّ روسيا بعد ضمّها لشبه جزيرة القرم في العام 2014، لكنّ ذلك لم يمنعها من استمرارها في مشروع خطّ الأنابيب الكبير أو ما يعرف بـ”نورد ستريم 2″، إلا أنّ الاجتياح الروسي لأوكرانيا حتّم على ألمانيا تغيير موقعها وموقفها بشكل استراتيجي.
ليس ما قبل الغزو كما بعده مطلقًا. فقد كسرت ألمانيا بإرسالها الأسلحة إلى أوكرانيا لمبدأ مهمّ هو “رفض إرسال الأسلحة إلى مناطق الصراع”. وفي طيّات وعدها بالدفاع عن كلّ متر مربّع من أراضي الناتو، بإرسال قواتها إلى سلوفاكيا ورومانيا وليتوانيا دلالة واضحة على ارتفاع مستوى مسؤوليّاتها القاريّة والاتحادية. ومع إبقائها على مفاعلاتها النووية السلمية وتأجيل تفكيكها الكامل إلى ما بعد العام 2022، وإلغائها لخط الأنابيب وتعهّدها بإيجاد مصادر طاقة بديلة عن الطاقة الروسية، تكون قد قرّرت التموضع والمواجهة وعدم المهادنة. وفي موافقتها على أكبر ميزانية دفاعية في تاريخها الحديث وفي أوروبا مؤشّر إلى بناء جيش قوي واستعادة ترسانتها واستيقاظ أمجادها.
إنّه انقلاب كبير على أرشيف السياسة الألمانية الحديثة وأسلوب العلاقات مع روسيا والعالم، وسيكون مكلفًا جدًّا وغالي الثمن، خصوصًا لناحية الطاقة. لكنّ كلّ ذلك يهون، بحسب ألمانيا، في سبيل الحرية والديمقراطية ووحدة أوروبا وسلامتها. إنّ أكثر ما تخشاه ألمانيا، وهي أكبر اقتصاد في أوروبا وعصب اتّحادها، هو انهيار النظام الأوروبي الذي سعت إليه بكلّ جهد في العام 1975 “وثيقة هلسنكي”، التي جعلت الحفاظ على وحدة أراضي الدول هدفًا مقدّسًا وأمرًا لا مفرّ منه ولا مساس به. في نهاية المطاف سوف تصبح أوروبا متقبّلة أكثر للقوة العسكرية الألمانية ومرتاحة لها. ففرنسا تشجّعها على العودة لتكون شريكًا أمنيًّا مهمًّا، من بعد فترة طويلة من الشعور الأوروبي بالأنانيّة الألمانية وعلاقتها المتمايزة مع روسيا هروبًا من ماضيها وإفراطًا بالسلمية.