الصِراعُ على الحقوق والشرعية في الشرق الأوسط لم يَنتهِ بعد | كتب غابي طبراني
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
ما الذي يَتَطَلَّبهُ الأمر لتغييرِ الطريقة التي تُدارُ بها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
هذا السؤال اكتسب إلحاحًا إضافيًا خلال العام الفائت، حيث شهدنا خلاله اختباراتٍ جديدة صارخة لنظرياتٍ مُتنافسةٍ حول السلطة والتغيير في المنطقة. لا يزال الإصلاحيون والطغاة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مُنخرِطين في صراعٍ على الهدف المركزي للحُكم: هل ينبغي للدولة أن تُوفّر السلع والخدمات الاجتماعية – بما فيها الأمن – بالإضافة إلى الشعور بالانتماء للمَواطنين المَحكومين، أم أن الدولة مُجرّد وسيلةٍ لدعم السيادة كما عرفها وجسّدها واستغلّها حكام الدولة؟
هذا الصراع الأساسي على الحقوق والحكم هو الموضوع السائد الذي يربط بين العديد من الأقواس التاريخية التي تتكشّف حاليًا في المنطقة، حيث بدأت القوى الإقليمية إعادة النظر في المسارات التي وضعتها في فترة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001. لقد تخلت الولايات المتحدة بشكلٍ قاطع عن دورها كقوة رئيسة مُهيمنة في المنطقة، على الرغم من أنها لا تزال لاعباً مهمًّا فيها. وانهارت أسس الدول القومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظلّ عقودٍ من الضغط المستمر والمُنافَسة بين الأجيال من خلال مزيجٍ من المُتنافسين من دولٍ فرعية وقوى غير حكومية.
كل هذا يؤدي إلى تحوّلات تكتونية طويلة الأجل، وأكثرها وضوحًا يبرز في التحديث الاقتصادي في المنطقة وإعادة توازن القوى العظمى، بالإضافة إلى الجدل الداخلي حول الحكم. من الناحية الاقتصادية، لا يزال النفط هو القوة الدافعة، ولكن على نحو متزايد، تقوم الأنظمة الخليجية الثرية بتنويع اقتصاداتها بعيدًا من اعتمادها التاريخي المفرط على الهيدروكربونات. بات تأثيرها في الداخل والخارج الآن يعتمد على القوة الاستثمارية لصناديق الثروة السيادية الضخمة لديها كما هو الحال في دورها المُهيمن في سوق النفط العالمية. إن إعادة توازن القوى العظمى أوجدت أقطابًا جددًا من القوى الإقليمية والدولية. لكنها لم تُغيِّر بشكلٍ جذري الطريقة التي يتم بها توزيع القوة في منطقةٍ تميّزت بتدخلاتِ قوى إقليمية وخارجية، على الأقل منذ تدخّل القوى الأوروبية في جبل لبنان في العام 1860 خلال الحكم العثماني.
القوس الثالث للأحداث التي تُشكل الشرق الأوسط اليوم هو الصراع الأساسي حول دور الحكم والمصدر النهائي لشرعيته – صراعٌ اندلع في العلن في العام 2010 واستمرّ منذ ذلك الحين. إن هذا السؤال الأساسي حول هدف الدولة ودورها يُطرَحُ الآن أكثر من أي وقت مضى في السنوات التي تلت الانتفاضات العربية التي بدأت في تونس في كانون الأول (ديسمبر) 2010. وقد ألهمت تلك الثورة الأولى كثيرين آخرين حيث أيقظت المظالم الشعبية. إن محنة محمد البوعزيزي، البائع المتجوّل الذي أضرم النار في نفسه بدلًا من قبول الإساءات والإهانات من رجال الشرطة الفاسدين، كان لها صدى لدى الناس عبر سياقات مختلفة على نطاق واسع في تونس والمنطقة الأوسع. لقد اختلفت درجات سوء الحكم من منطقة إلى أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن الأمراض الشائعة عميقة ومُشتَركة – ولا تزال كذلك.
عبر الأعمال المتكرّرة العديدة، تُظهِرُ الصيغة الفاسدة للحُكم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الحكّامَ الذين يرون رعاياهم على أنهم أفرادٌ مُقلقون يُهدّدونهم ويجب إخضاعهم -بالقوة إذا لزم الأمر- وليس كمواطنين لهم حقوق وهم الذين يمنحون الحكومة شرعيتها، والذين يجب خدمتهم وحكمهم بموافقتهم. في كلِّ بلدٍ في المنطقة تقريبًا، تستخدم الدولة وأنصارها العنف أو التهديد به لإبقاء السكان تحت السيطرة. تعمل قوات أمن الدولة أحيانًا كقوات فرض النظام وأحيانًا كقوات قمع. في حالاتٍ أخرى، تُهدّد الميليشيات أو الجماعات غير الحكومية أو المسلّحين المجهولين المعارضين بل وتقتلهم.
وفي الوقت عينه، تختبر دول الخليج العربية، بقيادة المملكة العربية السعودية، تحديثًا جذريًا من أعلى إلى أسفل، استنادًا إلى النظرية القائلة بأن الملوك المُطلَقين يمكنهم الحفاظ على مناصبهم في الحكم في الوقت الذي يُنوّعون اقتصادات بلادهم ويُغيِّرون الأعراف المجتمعية والعقود الاجتماعية بشكل جذري. لقد أطلقوا الرد الأكثر إثارة للاهتمام على المظالم المركزية التي قادت احتجاجات 2010-2011، حيث سعوا إلى تحقيقِ مزيجٍ من الازدهار والفُرَص، من دون تقديم تنازلات بشأن الحقوق أو التمثيل السياسي.
على النقيض من ذلك، قدّمت جمهوريتان استبداديتان في المنطقة، مصر وسوريا، صورةً مُختلفة حول مسألة الحكم. كلاهما يتمتّع بنظامٍ ديكتاتوري يدّعي الوطنية والديموقراطية وعلى رأسهما ديكتاتوران، عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، اللذان راهنا على صيغة الهيمنة الكاملة، وسحقا النقاد بعنف وتجنّبا حتى الادعاء بأنهما مُدينان لمواطنيهما، أو رعاياهما، بأيِّ شيء على الإطلاق.
داخل نظام الدول العربية، هناك عددٌ قليل من الاستثناءات التي لا تزال تَختبرُ، ولو بشكلٍ ضئيل، مسائل الحقوق والتمثيل السياسي والمواطنة الهادفة. لأكثر من عقد، استضافت تونس جهدًا حيويًا في سياسات الائتلاف الانتخابي. يبقى أن نرى ما إذا كان الانقلاب الأخير الذي قام به الرئيس قيس سعيِّد سيؤدي فقط إلى تعطيل الفصل الديموقراطي الأخير في البلاد أو إنهائه بشكل قاطع.
من ناحيةٍ أخرى، يتميّز كلٌّ من العراق ولبنان بنظامين سياسيين يقومان على المحسوبية الطائفية وتقاسم السلطة التوافقي. لا يوجد لدى أيّ من البلدين حكومة شرعية حقًا تخضع لما يشبه المُساءلة وتحترم حقوق المواطن، لكن كلاهما جمهوريتان تلعب فيهما الانتخابات دورًا ما في اختيار البرلمان والحكومة ورئيس الجمهورية – وحيث لا يزال الحكام يلجؤون إلى الدعم الشعبي لدعم شرعيتهم. لكن، هناك رابطٌ ضعيفٌ يربط إرادة الناخبين، التي تُعبِّر عنها الانتخابات، بالسلطة السياسية الفعلية. ومع ذلك، لا يزال مفهوم الشرعية الشعبية يُمارِسُ سلطةً أخلاقية كافية لقادةٍ غير مُستقرّين للجماعات المسلحة في كلا البلدين – وإثارة قلق الطغاة في المنطقة الذين يخشون، أيّ تحدٍّ لسلطتهم غير المُقيَّدة. لسوء الحظ، غالبًا ما يدفع الخوف من المواطنين الحكام إلى اللجوء إلى المزيد من العنف، في محاولة لتعزيز سلطتهم.
تواصل حركات الاحتجاج، ولا سيما في السودان وتونس، موجة المظاهرات الجماهيرية التي بدأت في العام 2010 والتي كانت واحدة من الآليات القليلة التي نجحت في تحدّي الطغاة القدامى. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الشعبية لم تخلق بعد ديموقراطية جديدة دائمة لتحلّ محل القادة الاستبداديين، إلّا أنها تُواصِلُ تشكيل المفاوضات السياسية في الجزائر وأوصلت كتلة معارضة إلى مقاعد البرلمان العراقي الجديد.
في العام الثاني عشر منذ أن وَلّدَت الانتفاضة التونسية ثوراتٍ شعبية في أنحاء عدة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا تزال هناك مسارات قابلة للتطبيق داخل النظام السياسي في المنطقة لتحدّي الحكّام أو إصلاح أنظمة الحكم الفاشلة. لذلك من المرجح أن يجلب العام 2022 المزيد من الرفض الشعبي والمزيد من الاحتجاجات والمزيد من التحديات الجذرية للأنظمة الهشّة التي تعلّمت أساليب فعّالة وقاسية لمعاقبة وإبعاد المُنشَقين والمعارضين. كان المستبدّون مَرِنين، حيث استخدموا العنف وسلطة الدولة لسحق الثورات الشعبية والحفاظ على سيطرتهم. لكن لم يحلّ أيٌّ من حكام المنطقة الأزمتين التوأمين: الشرعية والحُكم.