دعوا السوريين يتدبرون شؤون بلادِهِم ويقرِّرون مُستقبلَها | بقلم العميد د. عادل مشموشي
ليس لعاقلٍ أن يعزُلَ ما يحصلُ اليومَ في الشمال السُّوري عن مُجريات الصِّراعِ الدائم في منطقَةِ الشرق الأوسط ولا سيما ما بين محور المُمانعةِ التي ترأسُهُ إيران من جهة ومن جهة أخرى العدو الإسرائيلي مدعومًا من قوى غربيَّة وفي مُقدِّمتها الولايات المتحدة الأميركيَّة. سيما وأنه لا يمكن تصوُّر قيامُ قوى المعارضةِ السوريَّةِ بكل تلك الإستعداداتِ لتَحرُّكِ غير مسبوقٍ في وجه النِّظامِ القائمِ وتمكُّنِها من تَحريرِ مناطقَ شاسعَةٍ من دون علمِ ودَعمِ دولٍ إقليميَّةٍ ومُباركَةٍ أميركيَّة، وعدمِ مُمانَعَةٍ العدو الإسرائيلي لإسقاط النِّظامِ البعثي في سوريا، والذي أضحى أداةً طيِّعةً في يد النِّظامِ الإيراني الذي يدعمه في وجهِ التَّحرُّكاتِ الشَّعبيَّةِ منذ العام 2011.
النِّظام السوري يعتبرُ مُكونًا أساسيًّا في مِحور المقاومة/المُمانعَةِ الذي تتزعَّمه إيران، يلعبُ دورًا أساسيًّا في هذا المحورِ بحكمِ موقعه الجُغرافي المحاذي للأراضي الفلسطينيَّة المُحتلَّة، ولم يزل العدو الإسرائيلي يحتلُّ جزءًا من أراضيه “هضبة الجولان”، هذا بالإضافَةِ إلى تسهيلِهِ عمليَّةِ وصولِ الإمدادات عبره لحزبِ الله في لبنان، ومن هنا نلحظُ إصرارَ العدو على تعطيلِ المَطارات السوريَّة واستهدافِ شُحنات الأسلِحةِ المَنقولَةِ برًّا من مَعبرِ البوكمال على الحدودِ العِراقيَّةِ وصولًا إلى الحدودِ اللبنانيَّةـ السوريَّة.
لقد فوجئ النِّظام السوري في اليوم التالي لوقف إطلاق النار ما بين العدو الإسرائيلي وحزب الله، بتحرُّكاتٍ عَسكريَّةٍ واسِعَةِ النِّطاق للقِوى المُعارضةِ له، والتي كان يعتقدُ أنها غير قادرةٍ على الصُّمود أمامَ ضرباته المُتلاحقةِ خلالَ الأسابيع الأخيرَة، والتي يبدو أنها كانت تستعِدُّ خلال الفترَةِ السَّابقَةِ، واستَغلَّت انشغالَ حُلفائه بالحربِ على حماس وحزبٍ الله، والتي لم يُشارك النِّظامُ الأسدي فيها، متجاهلًا عمليَّاتِ القصفِ التي كان ينفِّذُها طيران العدو الإسرائيلي في عُمقِ الأراضي السُّوريَّة، والتي كانت تطالُ مراكز ومُنشآتٍ عسكريَّةً سوريَّةَ بالإضافةِ إلى تَجمُّعاتٍ ومراكزَ تابعةٍ للحرس الثوري الإيراني، وأخرى لحزب الله، كما استهداف المَطارات السُّوريَّةِ التي كانت تُستعملُ لشحنِ الأسلِحةِ للحزب وشُحناتِ الأسلِحةِ المَنقولةِ برًّا إلى لبنان، والاجتماعاتِ التي كان يُجريها قادَةُ الحرسِ الثوري الإيراني وحزب الله داخلَ الأراضي السُّوريَّة.
إن مُجرياتِ المَعركةِ الدائرةِ في الشَّمال السوري تـوحي بأن عددًا من أهمِّ التَّنظيماتِ السُّوريَّةِ المُعارضَةِ للنِّظام البَعثي قد اجتمعت ووحَّدت صفوفها وتتعاون في ما بينها لإسقاط النِّظام، ونسَّقت في ما بينها وتشاركت في التَّخطيط لتنفيذِ أوسعِ هجومٍ لها منذ بدايةِ الثَّورة، وهي: هيئةُ تحريرِ الشَّام (تجمع لمنظمات جهاديَّة)، أحرار الشَّام (أربع فصائل إسلاميّضة)، الجبهة الوطنيَّة للتحرير (أحد عشر فصيلًا من فصائل الجيش السوري الحر)، الجيش الوطني السوري (فصائل مدعومة من تركيا) جيش العزَّة (مدعوم أميركيَّا) كتائب نور الدين الزنكي (مدعومة تركيًّا وأميركيًّا وتنضوي ضمن هيئة تحرير الشام)، قوات جيش سوريا الحرة (مدعوم تركيًّا) أما قوَّاتُ سوريا الديمقراطية “قسد” وهي كنايةٌ عن تحالفٍ مُتعدِّدِ الأعراقِ والأديان، يغلبُ عليه الطابع الكردي (مدعومة أميركا) والتي كان النِّظام يسعى إلى تحييدِها وكسب ودِّها، فاقتصرت تحرُّكاتها على مُحاولَةِ تَوسيعِ رُقعةِ انتِشارِها مُستفيدةً من المُتغيراتِ المَيدانيَّةِ لصالِح المُعارضَة.
والملاحظُ أنه بمُجرَّدِ أن أُقِرَّ اتفاقُ وقف إطلاق النار ما بين لبنان وإسرائيل بتاريخ 27 تشرين الثاني من الشهر الفائت حتى أعلنت المُعارضةُ السوريَّةُ عن بدءِ تحركٍ واسعٍ ومنظَّم تُشارك فيه مختلف قوى المعارضةِ باتِّجاه القُرى والمدن الواقعة تحت سيطرة النِّظام تحت عنوان “رد العدوان” وبإشرافِ غرفة عمليَّاتٍ موحَّدة، وقد تمكَّنت من السَّيطرةِ على مساحاتٍ شاسعةٍ من ريفي حلب الغربي وأدلب الشرقي خلال أقل من 24 ساعة، كما تمكَّنت خلال مُهلةٍ مُماثلةٍ من الدُّخول إلى بلدةِ حلب وإحكام السَّيطرةِ عليها، وأبدت تلك القوى حرصًا منذ اليوم الأول لدُخولها المدينة على أن تبدي صَورةً مُسالمَةً ومُتساهلةً في تعامُلِها مع المَدنيين من كُلِّ الأطياف، إذ بادرت إلى تشكيل إدارة مدينة “شكِّلت من أعيان المدينة” لتولي شؤونها وتأمين الاحتياجاتِ اليومِيَّةِ لسُكَّانها، وتابعت زحفَها باتِّجاه ريف حماه ولم تلق مُقاومةً تذكر حتى بلغت مَشارفَ المدينةِ، والتي تمكَّنت من دُخولها عبر ثلاثة مَحاورَ وسقطت المينة بيدها خلال فترة 72 ساعة بعد مَعارك ضَاريَة مع قواتِ النِّظامِ التي كانت مُتمركِزَةً على تخومِها وفي وسَطِها، وبعد أن أحكمت المعارضةُ سَيطرتَها عليها توجَّهت قواتها إلى بلدة حِمص مرمورًا ببلدة الرستن، ووصلت إلى تخومِ حمض ولم تزل تخوض معارك شرسة مع قوَّات النِّظام وداعميهم الذين التحقوا بهم من خارج الأراضي السُّوريَّة وبالتحديد من إيران والعراق واليمن وغيرها من القوى التي تتولى إيران تمويلَها وتسليحَها، وذلك بعد أن اضطُرَّ حزب الله إلى سحبِ مُعظمِ قُواتِهِ من الأراضي السُّوريَّة لتأمين احتياجاتِ الجَبهةِ مع العدو الإسرائيلي.
لقد لاحظَ الرئيس السوري منذ بدء العمليَّةِ وهن قوَّاتِ جيشه وعدمِ قدرتِه على الصُّمود في وجه القوى المُهاجمة بعد انسحاب مُعظم مقاتلي حزب الله وعددٍ كبير من ضُبَّاط ووحدات الحرس الثوري الإيراني، واستشعرَ خطرًا داهِمًا على نِظامِهِ نتيجةَ توحُّدِ قوى المُعارضَةِ، لذا توجَّه مُسرعًا إلى روسيا، مُستنجدًا برئيسِها بوتين المُنشغلِ بحربِ أوكرانيا، بعد أن وفَّر حِلفُ شمال الأطلسي أحدث الأسلحَة لغريمِه زيلنسكي، ورغمَ ذلك وعد بوتين زائرَهُ بتلبيةِ طلبِه، وما كادَ الرئيس السوري يعودُ إلى بلده حتى بدأت أسرابُ الطَّائراتِ الروسيَّةِ المَوجودةِ في مطارِ حميميم السُّوري بالمَشاركة مع الطَّيران السوري باستهدافِ مراكزِ القيادةِ وحُشودات قِوى المُعارَضَةِ وتمركزاتِها الأساسيَّة لوقفِ تقدُّمها ورفعِ مَعنويات وحدات جيش النِّظام على الجبهة؛ ورغم ذلك لم تنجَح تلك الغاراتُ في تنفيذِ غرَضها، وإن حدَّت بعض الشَّيء من وتيرةِ تقدُّمِ القِوى.
حاول النِّظام السوري تبرير انسحابات جيشه مُعتبرًا إياها مجرد انسحابات تكتيَّة لإعادة تنظيم الصفوف تمهيدًا للقيام بهجمات مُعاكسة، وأعلن التَّعبئةَ العامَّةَ وبدأ باستقبالِ وتسليحِ المُتطوعينِ لتدعيم وحداتِ جيشه الذي وُضِعَ بحالةِ استنفار، ودفعَ بالعديدِ من وحداتِهِ لتعزيز الجَبهةِ الشَّماليَّة؛ وبالتَّزامنِ بدأ الإعلان عن وصول قوافلِ إمدادٍ قادِمَةِ من الأراضي العراقيَّة، ومئات الخُبراء والمُقاتلين الإيرانيين القادمين من لبنان وإيران، كما أُشيع عن نقلِ آلاف المُقاتلين من جنسياتٍ غير عربيَّةٍ وغير عربيَّة عبر الأراضي العراقيَّة.
الدُّولُ العربية والتي كانت تُناصِرُ الشَّعب السوري في ثورته بدت اليوم مُتناقضةً مع مواقفها السابقة، مُعلنًةً دعمها للنِّظام، كمصر ودولة الإمارات العربية المُتحدة والمملكة العربيَّة السعوديَّة، وحدها دولة قطر ما زالت على موقفها السَّابق داعمةً لقوى المُعارضةِ بالتَّنسيقِ مع تركيا، والتي بدورها تتجنَّبُ الإفصاح علنًا عن وقوفها خلف هذا التَّحرُّك ودعمِها وتسليحها لبعضِ التَّنظيماتِ المناوئة للنِّظام، في الوقتِ الذي لا تُخفي فيه أوكرانيا دعمها لقوى المُعارضَةِ في وجهِ النِّظامِ الذي قام بإرسال مُقاتلين للقِتالِ الى جانبِ حليفِه بوتين، كون روسيا تُعاني من نقصٍ حادٍّ في العديد والعتاد، وهذا ما يستخلصُ من استعانتها بإيران لمدِّها بالمسيَّرات، وبكوريا الشِّماليَّة التي أمدَّتها بالصَّواريخِ ومؤخَّرًا بالمقاتلين.
أميركا التي اقتصرَ تدخُّلُها في النِّزاع الدائرِ في سوريا على وضعِ يدها على معظمِ آبار النَّفط والغاز، وتوفير الدَّعمِ لمُنظَّمة قسد “الكرديَّة”، تراها حَرصت طوال الفترةِ السَّابقةِ على عدم تمكين قوى المُعارضةِ من إسقاطِ النِّظامِ تجاوبًا لمطلبِ حليفتها إسرائيل التي كانت ترتاحُ لوجودِه كضامنٍ للإستقرار على جبهتها الشَّرقيَّة، الأمرُ الذي كانت تخشاه في حال سيطرةِ قوى المُعارضَةِ على الضِّفَّةِ السُّوريَّةِ من جَبهة الجولان.
الكيان الإسرائيلي يبدو أنه بعد عمليَّةِ طوفان الأقسى قد بدَّل موقِفَه تجاه النِّظام السُّوري الذي أضحى كأداةٍ تُحرِّكُها إيران، يُسيِّرُهُ ضباطٌ من الحرس الثوري الإيراني المُتمركزين في سوريا، والمولجين بوصولِ الإمدادات لحزب الله عبرَ المَطاراتِ والأراضي السوريَّةِ، وبخاصَّةٍ عبر الطَّريق الدَّولي المُمتدِّ من مَعبر البوكمال على الحدود العراقيَّةِ وصولًا إلى الحدودِ اللبنانيَّة، وهو عازمٌ على قطعِ خطِّ الإمدادِ هذا، من خلالِ تعطيل المَطارات السُّوريَّة، واستهدافِ مراكزِ وتجمُّعاتِ كل من الحرس الثَّوري وحزب الله، بالإضافَةِ إلى أماكنِ تخزين الأسلحةِ والشُّحنات المَنقولَةِ إلى داخل الأراضي اللبنانيَّة.
إيران التي لم تخفِ يومًا وقوفها إلى جانب النِّظامِ السُّوري في وجه الانتفاضَة الشَّعبيَّةِ، أوعزت منذ بدايةِ الانتفاضةِ الشعبيَّةِ في سوريا إلى المُنظَّماتِ العامِلَةِ وفقَ أجندَتِها بالقتال إلى جانب النِّظام لتفادي سُقوطِه وكان لحزب الله الدَّور الفاعل في ذلك، ورغمَ تلك التَّدخلت الخارجيَّةِ بقي النِّظامُ مُهدَّدًا إلى أن اضطُرَّ لطلبِ تَدخُّلٍ عسكريٍّ مباشر من روسيا التي استجابت على عجل، ونجحت في قلب موازين الصِّراع، رأسًا على عَقب، لصالحِ النِّظام الذي كان يتهاوى، وأُبرِمَ على ضَوءِ ذلك اتِّفاقًا ثُنائيًّا مُنِحَ بموجَبهِ الجانبِ الروسي تسهيلاتٍ كبيرَةٍ في سوريا وضمنَ لها وجود قواعدَ عسكريَّةٍ لمدَّةِ خَمسين عامًا، في المقابل حظيَ نظامُ آل الأسدِ بدعمٍ روسي لضمانِ إمساكهم بالسُّلطة.
لبنان الذي أطلق بعضُ مسؤوليه شعار النَّأي بالنَّفس عما يحصل في سوريا، إلَّا أنه لم يلزمَ حزب الله الذي دخلَ إلى حلبةِ الصِّراع إلى جانب النَّظام السُّوري في وجه الثُّوار، وقد تكبَّد جرَّاءَ ذلك العديد من الخسائرِ البشريَّةِ في صُفوفِه، الأمرُ الذي انعكس سلبًا على لبنان، بحيث عمَدَ بعض التَّنظيماتِ الأصوليَّةِ المُناهضة للنِّظامِ إلى إرسال انتحاريين، وتفجيرِ أنفسِهم في مناطقَ خاضعةٍ لنفوذِ الحزب كالضاحيَة الجنوبيَة لبيروت وبعلبك والهرمل والقاع، كما حاولت مجموعاتٌ منها الدُّخولَ إلى الأراضي اللبنانيَّة عبر جرودِ بلدةِ عرسال، حيث عمل الجيش اللبناني على التَّصدي لها، بعد أن تمكَّنت من أسرِ عددٍ من عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي التي كانت مولجة باتِّخاذِ تدابيرَ أمنيةٍ لحمايةِ مُخيمٍ النازحين السوريين في البلدة. واستمرَّ الوجود العسكري للحزب في سوريا إلى أن فُتحت المعركةُ في الجنوب اللبناني في أوخر العام 2023 على مصراعيها حيث اضطر الحزب لسحب معظمِ مقاتليه لتلبيَةِ احتياجات الجبهةِ في لبنان؛ إلَّا أن المُستهجنُ في هذا الإطار يتمثَّلُ في الموقفِ الذي أطلقهُ مؤخَّرًا الأمين العام لحزب الله “الشيخ نعيم قاسم” في خطابه الأخير إذ أعلن عن استِمرارِ الحِزبِ في موقِفِهِ إلى جانب النِّظام السوري، غير آبهٍ بكل الخسائر البَشريَّةِ الماديَّةِ الباهِظَةِ التي لحِقت بالحزب جَرَّاءَ الانخراط في حروب لا دخل للبنان بها؛ والمُثير للإستغرابِ أننا لم نلحظَ تعليقًا واحدًا من قبل المسؤولين الرَّسميين في لبنان ينتقدُ هذا الخيار التَّفرُّدي، وكأنَّنا لم نتعلَّم أو نتَّعِظَ من دروسِ الماضي.
النِّظامُ الأسدي الذيُّ يُمسكُ بزمامِ السُّلطة في سوريا منذ العام 1971، هو المُستهدفُ بالانتفاضةِ الشَّعبيَّة التي انطلقت من مدينةِ درعا عام 2011، لم يدع وسيلةً قمعيَّةً إلَّا ولجأ إليها لبقائه مُمسكًا بالسُّلطة، ولكنه اليوم يبدو أضعف مما كان عليه طوال السنوات الماضية، ويتَّضحُ ذلك من الإنهيارِ السَّريعِ لوحداتِهِ العَسكريَّةِ، وانسحابِها أمام قوى المُعارضةِ التي تمكَّنت خلال أيامٍ مَعدوداتٍ من إحكامِ سيطرتِها على ما يزيد من 60% من الأراضي السُّوريَّة، والتي تضُم مَعظمَ المُدن الواقِعَةِ شمالِ وشمال ـ شرق سوريا، ويبدو أن هذا النِّظام يلفظُ أنفاسه الأخيرَةِ بعد أن أضحى آيلًا للسُّقوطِ حُكمًا رغمَ كل الدَّعم الخارجي الذي يلقاه.
ومما لا شكَّ فيه أن تفجُّرَ الصِّراعِ على الأراضي السُّوريَّةِ مُجدَّدًا وبوتيرَةٍ عاليَة قد حصلَ نتيجةً لحالةِ الاحتقانِ في الساحتين الدَّوليَّة والشرق أوسطيَّة، والتي تسبَّبت بها تطوراتُ الحربِ في أوكرانيا، ومؤخَّرًا الحربُ في منطقةِ الشَّرقِ الأوسطِ ما بين إسرائيل وإيران وإن كانت لغايةِ الآن أشبه بحرب غير مُباشرة، ويبدو أن الحرب في سوريا أفسحت المجال أمام مختلفِ الدول والقوى الضالعةِ في هذه الصِّراعاتِ بصورةٍ مباشرة أو غير مُباشِرَة لتصفيةِ حساباتِها مع بعضِها البعض، أو لتعزيز فرصِها في أيَّةِ مفاوضات مٌستقبليَّة تُعنى بحلِّ النِّزاعاتِ القائمة.
ثمَّة أسئلةٌ عدَّةٌ تطرحُ نفسها بعد التَّحولاتِ الجوهريَّةِ التي طرأت على السَّاحةِ السوريَّة، منها: ما هو مصيرُ النِّظامِ البعثي؟ وما هو مَصيرُ قوَّات الحرس الثوري الإيراني المتواجدين في سوريا في حال انهيار النِّظام؟ وهل ستستمر إيران في توفير الدَّعم العسكري لحزب الله وكيف؟ وماذا لو أقدمت إسرائيل على ضرب الصِّناعاتِ العَسكريَّةِ الإيرانيَّة ونجحت في تقويضِ قدراتِها العسكريَّة، بما في ذلك صِناعاتُ المُسيَّرات والصَّواريخ البعيدةِ المدى؟ وهل يمكنُ الركونُ لأيَّةِ تعهُّدات دبلوماسيَّةٍ تقدِّمها إيران طوعًا أو تحت ضُغوطٍ عسكريَّةِ واقتصاديَّةِ تضمنُ عدمَ تدخُّلِها في شُؤون الدُّولِ الأخرى بما في ذلك امتناعُها عن توفير الدَّعمِ بكلِّ أشكالهِ لأحزابٍ أو تنظيماتِ خارجَ إقليمها، وتقليبِها لبعضِ المكوناتِ الشَّعبيَّةِ على نُظُمها وحُكَّامها؟ وماذا بالنِّسبَةِ لمُستقبلِ حزب الله الذي خرجَ من مَعركتِهِ الأخيرةِ مع إسرائيل مُنهكًا وتحت شروطٍ قاسيةٍ أملتها النتائجُ العسكريَّةُ الميدانيَّة؟ وهل سيمتثلُ لروحيَّةِ الوفاق الوطني الذي أضحى جزءاً من الدستور اللبناني، ولكافَّةِ المُقرراتِ الدَّوليَّةِ التي ترعى الاستقرارَ على الجبهةِ اللبنانيَّةـ الإسرائيليَّة، بما في ذلك البنود التي تنصُّ على حصرِ الأسلحةِ بالأجهزَةِ العَسكريَّةِ والأمنيَّةِ الرَّسميَّة؟ وهل سيتحولُ إلى حزب سياسيٍّ تنحصرُ اهتماماتُهُ بالشُّؤون اللبنانيَّة الداخليَّة؟ الإجاباتُ على تلك التساؤلات رهن بما ستؤول إليه الأوضاعُ في سوريا كما على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ وبالتَّسوياتِ التي ستبنى عليها الحلول في كلٍّ منها؛ وهذا ما سيكون مَحطَّ أنظارِ المُحلِّليلين والمُراقبين مُستقبلًا وستُخصَّص له عشراتُ المقالاتِ والمُداخلات وحلقاتِ الحوار التَّحليليَّةِ ـ الإستقرائيَّة.