في الأول من تشرين سنة 2019 انطلقت تظاهرات مطلبية في العراق، استمدت زخمها من ترويج مواقع التواصل الاجتماعي وتراخي المنظومة الحاكمة بشأن قوة وزخم هذه التظاهرات ظناً أنها تملك محركات الجماهير، وأن المروجين لهذه التظاهرات هم من العملاء لدول معروفة، وهو ما صرح به رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي في غرفة العمليات التي خُصصت للتعامل مع المظاهرات .
وكانت هذه الحسابات هي القشة التي قسمت ظهر المنظومة الحاكمة ،فقد حاولت هذه المنظومة تأجيج الاوضاع قبل الانتخابات في سنة 2018 لاحراج رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي ،وظنت انها تمتلك هذه الجماهير الغاضبة أو تملك مفاتيح حركتها .
ولكن أحداث تشرين ومابعدها كشفت أن فتيل الاحتجاجات قابل للاشتعال بأي لحظة ،لان الدوافع لها مازالت موجودة ولهذا نجد الصوت المعارض بقى عاليا منذ التغيير وحتى هذه اللحظة .
فالعراقي يملك في داخله رفضا لاي حكومة تترأسه ،ويميل للاعتراض والغضب من أي إجراء أو تنظيم تفرضه الحكومة أيا كانت هذه الحكومة، فما زال هاجس الديكتاتورية وقمع نظام البعث يقلقه، وهو ما تعمل عليه بعض القوى لابقاء مؤسسات الدولة ضعيفة وبعد فشل حكومة عبدالمهدي بكل الاصعدة ودموية التعامل مع المظاهرات المطلبية تحولت الى مظاهرات سياسية كادت تودت بالنظام السياسي الذي تشكل بعد 2003.
ولولا تدخل المرجعية التي كانت ومازالت صمام الامان بطلبها من البرلمان اتخاذ الاجراء المناسب،فبادر السيد عبدالمهدي الى الاستقالة ليكون أول رئيسٍ للوزراء يستقيل جراء الاحتجاجات الشعبية ،وقد حاول وهو ومَن جاء به الالتفاف على الاستقالة وتجديد الثقة به مرة اخرى إلا أن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل الذريع .
وبقيت الساحات كماهي الى أن تشكلت حكومة الكاظمي الذي يملك علاقات مع بعض الناشطين وخيم الاعتصام مستغلا أدوات الجهاز وموارده التي أدامت هذه العلاقة، ولكنها لم تكن كافية في انهاء التجمعات في ساحات التظاهر. وقد كان للاداء الحكومي ،وادخال البلد في دوامة نقص السيولة النقدية وعدم توفير رواتب الموظفين دورا في فقدان السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي عادت لتعلن رفضها لهذه الحكومة ،وإعادة الدعوة للاحتجاجات مرة اخرى مما اعطى زخما لساحات التظاهر وللذين لم تُحل مشاكلهم بعد ، أو لم يحصلوا على المكاسب من التغيير .
وبما أن المتظاهرين تختلف توجهاتهم ولا يملكون هدفا محدداً فإن عملية تقكيك هذه التجمعات قد تكون سهلة ولكنها بحاجة الى خطوات عملية مهمة .
لقد أخطأت المنظومة التي جاءت بعادل عبد المهدي حينما استخدمت العنف لتوحد المجاميع المختلفة في ساحات التظاهر لتجعل من هاجسها البقاء في الساحات ،وقد استخدمت بعض المجاميع في هذه الساحات انواعاً من الأسلحة وخرجت من إطار السلمية المفروضة .
وقد وجد السيد مقتدى الصدر وأنصاره في بقاء هذه التجمعات التي كان يدعمها سابقا تهديداً له ،بعد أن حاولت بعض المجاميع حرق صوره أو وضع علامة (X) إسوةً ببقية السياسين الذين يدخلون سوق المنافسة فيتم زج صورهم للنيل منهم .
ولهذا تم اكتساح الساحات من أنصار مقتدى الصدر بالقوة مما وَحَدَّ بقايا الساحات مرة أُخرى تجاه عدوٍ يحاول قتلهم وانهاء وجودهم .
وقد أخطأت الحكومة مرة اُخرى بتخليها عن حماية هذه التجمعات أو غضت الطرف عن استهدافها من قبل أنصار التيار الصدري، وعادت هذه التجمعات لتستخدم الاسلحة البيضاء والنارية بعد غياب الاجهزة الحكومية في تأمين الحماية اللازمة للمواطنين
ويحاول الطرفان تقمص زعامة تيارين هما بعيدين عنه تماما .
فالتجمعات لُصقت بها صفة العلمانية من قبل المنظومة الحاكمة السابقة التي حاولت أن تُسقط المتظاهرين معنوياً ببث مقاطع فيديو لممارسات بعيدة عن الذوق اولا وعن العرف العراقي ثانيا، وبالتالي جعل المتظاهرين في خانة ((الشيطنة)) أو في صف العلمانية .
وهكذا حاول مقتدى الصدر تزعم التيار الاسلامي ليجعل من الصراع الدائر بينه وبين التجمعات على أنه صراع بين الاسلاميين والعلمانيين .
وفي الحقيقة لا يمثل مقتدى الصدر التيار الاسلامي ،ولم يقدم لنا طوال السنوات التي تزعمها نموذجا من التنظير للحكم الاسلامي أو شكل الادارة الاسلامية ،ويعتمد في وجوده على الارث الذي خلفه والده المرجع الشهيد محمد صادق الصدر (رض).
ولا تمثل التجمعات في الساحات التيار العلماني ،وفيها من الذين ينتمون الى الفصائل الاسلامية التي تدخل في هذه التجمعات لاسباب لامجال لذكرها الان ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المحتجين من الملتزميِن بتعاليم الاسلام لكن تجمعهم النقمة من الاوضاع المتردية ،او بعضهم يحاول التنفيس عن بعض مشاكله الشخصية .
وما يجري الان فهم خاطئ للديمقراطية وهو صراع مسلح تستخدم فيه أنواع الاسلحة للسيطرة على الشارع السياسي ليكون خطوة متقدمة في الانتخابات القادمة .
والتساؤل هل خسر السيد مقتدى الصدر الجولة بعد أن حاول اكتساح الشارع وزعامة التيار الاسلامي ،وخسر كذلك بأن يكون الرجل الاوحد الذي يستطيع تحشيد الجماهير للتظاهرات.
هل ستكون نتيجة الصراع بالسيطرة على الساحات مقدمة للفوز باغلبية الانتخابات القادمة ،أم إنها ستؤدي الى عرقلة اجراء الانتخابات .