كأسُ العالم في قطر: نهايةٌ لحقبةٍ رياضيةٍ عالمية | بقلم غابي طبراني
يُمكِنُ، من الناحية النظرية، إرجاعُ جميع الخلافات المُحيطة بكأس العالم لكرة القدم 2022 إلى لوس أنجليس وقادة تلك المدينة الأميركية الذين وافقوا على استضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1984، رُغمَ أن ذلك لن يكونَ عادلًا جدًا.
بعد كل شي، كيف يُمكن لهؤلاء المسؤولين أن يعرفوا، أو أن يتنبَّؤوا، أن مدينتهم ستُصبح المدينة الوحيدة التي تجني الأرباح من خلال استضافة الألعاب الأولمبية؟ كيف يمكنهم أن يعرفوا أنهم، بفعلهم ذلك، سيُحفّزون عددًا لا يُحصى من الحكومات الأخرى لمحاولة فعل الشيء نفسه، وأن المدن المُضيفة ستغرقُ في ديونٍ ضخمة في هذه العملية؟ وكيف يمكن لقادة “مدينة الملائكة” أن يتنبَّؤوا بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان و”الغسيل الرياضي” الذي سيتبع نجاحهم؟
بالطبع، لم يكن باستطاعتهم المعرفة أو التنبّؤ. لكن النجاحَ المالي والثقافي للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1984، وإن كان بشكلٍ غير مباشر، دفع المزيد والمزيد من الدول وبلديات المدن للتنافس على فُرصة استضافة الأولمبياد وكأس العالم –على الأقل من الناحية النظرية– لجني الفوائد والعوائد. وجعلت ممثلي تلك الدول والمدن أكثر استعدادًا لفعل أو قول أي شيء للفوز بحقوق الاستضافة. في العقود التي تلت العام 1984، أصبحت العطاءات طموحة بشكل متزايد. إرتفعت الموازنات، وعلى نحوٍ مُتَّصل، تصاعد الفساد في عملية الاختيار بشكلٍ كبير.
وصل الأمرُ إلى ذروته في العام 2010، عندما أعلن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” آنذاك، “سيب بلاتر” (Sepp Blatter)، عن اختيار قطر لاستضافة نهائيات كأس العالم 2022، والتي انطلقت في 20 تشرين الثاني (نوفمبر).
من الصعبِ المُبالغة في تقديرِ تداعيات ذلك القرار وتصحيح المسار الذي تلاه. ببساطة، إذا كان العام 1984 هو بداية العصر الحديث للأحداث الرياضية العالمية، فإن العام 2010 كان بداية النهاية لتلك الحقبة. وسُيمثّل العام 2022 زوالها.
إذا كان هناك شيءٌ واحدٌ يُميِّزُ تلك الحقبة، فهو التكلفة. كانت الموازنة النهائية لأولمبياد 1984 حوالي 500 مليون دولار – أي ما يعادل 1.5 مليار دولار اليوم. منذ ذلك الحين، ارتفعت الموازنات بشكلٍ كبير. من النادر أن تُكلّفَ الألعاب الأولمبية أقل من 10 مليارات دولار، لكن تكلفة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008 في بكين بلغت 52.7 مليار دولار، وهو رقمٌ قياسي في ذلك الوقت. ثم تصدّرت الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي في روسيا ذلك في 2014 بنحو 60 مليار دولار. في غضون ذلك، أنفقت البرازيل وروسيا حوالي 15 مليار دولار لاستضافة كأس العالم في 2014 و2018 على التوالي.
ومع ذلك، فإن كل هذه الأرقام تبدو باهتة مُقارنةً بمبلغ ال220 مليار دولار الذي أنفقته قطر لاستضافة أكبر حدثٍ رياضي لهذا العام.
والسؤال: ما الذي يشتريه كل هذا المال للمُضيف؟ على المستوى المجازي، فهو يشتري للبلد المُضيف المكانة والسمعة والاهتمام وربما بناء الأمّة. على المستوى الحرفي، فإنه يدفع لبناء وتجديد البنية التحتية. بعد كل شيء، تتطلّب الرياضة مجمّعات رياضية. بالنسبة إلى البرازيل، كان هذا يعني سبعة ملاعب جديدة، وإلى روسيا تسعة، وإلى قطر ستة. لكن ذلك لا يعني فقط مجرد ملاعب وأماكن رياضية. فالرياضيون يحتاجون إلى أمكنة ينامون ويأكلون ويتدرّبون فيها. والمتفرّجون يحتاجون إلى أمكنة يذهبون إليها عندما لا يشاهدون المباريات. ومئات الآلاف من الأشخاص يحتاجون إلى الانتقال من مكانٍ إلى آخر.
وهذه البنية التحتية غير الرياضية هي التي يستخدمها القادة غالبًا كمُبرِّر لارتفاع تكلفة التحضير للأحداث. الاستضافة هي ذريعة لاختراق الروتين وبالتالي تلبية الجداول الزمنية الطموحة للتنمية الاقتصادية. في حالة قطر، كان ذلك يعني تحديث المراكز الحضرية وحتى إنشاء وتركيب نظام مترو كامل في أقل من عقد. يُمكن الآن تحقيق خطة رؤية 2030 للبلاد بحلول العام 2030 لأن البطولة استلزمت السرعة. إن التنمية الملموسة جيدة للقادة. بل إن التطورَ السريع الملموس هو أفضل.
لا هَمَّ إذا كان الكثيرُ من تلك البنية التحتية غير ضروري. يوجد الآن في مدينة ماناوس البرازيلية النائية ملعب كرة قدم عملاق جديد يبعث على الإعجاب – من المحتمل ألّا يمتلئ أبدًا. بكين لديها “عش الطيور” اللافت للنظر، والذي عادة ما يكون فارغًا، والذي يكلف 10 ملايين دولار سنويًا لصيانته. أثينا لديها مجموعة جديدة كاملة من الأنقاض، في شكل أماكن مهجورة، للسائحين لزيارتها، وهذا دون الإشارة إلى حقيقة أن تكلفة هذه الأماكن مسؤولة جزئيًا عن أزمة ديون اليونان.
لا هَمَّ، أيضًا، إذا كانت البنية التحتية الجديدة تأتي بثمنٍ يدفعه الناس الذين يعيشون في هذه المدن. غالبًا ما يزعم القادة بأن استضافةَ حدثٍ كبيرٍ ستُقدّم مساكن جديدة وبأسعارٍ معقولة، لكن نادرًا ما يكون السكان الحاليون هم مَن يحصدون هذه الفائدة. في كلٍّ من “كيب تاون” في جنوب أفريقيا وريو دي جانيرو في البرازيل، طُرِدَ آلاف الأشخاص من منازلهم قبل كأس العالم والألعاب الأولمبية التي أقيمت في هاتين المدينتين، على التوالي، من أجل إفساح المجال لبناء وحدات سكنية لم يكن بمقدورهم في الواقع تحمّل تكلفتها.
في قطر، تمَّ طرد آلاف العمال المهاجرين من الأحياء التي يُقيم فيها المشجعون الآن من أجل كأس العالم. ناهيك عن آلاف العمال الذين لقوا حتفهم في عملية بناء الملاعب: يُشكّل العمال الأجانب 85٪ من سكان البلاد، وهم المسؤولون عن بناء كل تلك البنية التحتية. لقد دفعوا أيضًا ثمنًا لحفل “الظهور” العالمي لقطر.
في كلٍّ من هذه الحالات، وكذلك في حالات أخرى، ادّعى قادة الدولة أو المدينة أنه تم تعويض السكان وأن الحدثَ سيُحسّن حياتهم. في كثيرٍ من الأحيان، تُعتَبَرُ الألعابُ ذريعةً لإخراج الأشخاص الأكثر فقرًا من المراكز الحضرية من أجل تقديمِ مدينةٍ حديثةٍ وغنيةٍ للعالم. إن تكلفة القيام بذلك بشرية بقدر ما هي مالية.
كلٌّ من هذه التكاليف هي التي قادت الآن الاتحاد الدولي لكرة القدم، “فيفا”، واللجنة الأولمبية الدولية إلى تصحيح المسار.
بعد انتقاداتٍ شديدة بسبب اختيارها قطر كبلدٍ مُضيف الذي تلته فضيحة فساد لاحقة، أعلنت “فيفا” في 2018 أن الولايات المتحدة ستستضيف كأس العالم 2026 إلى جانب المكسيك وكندا في دور المجموعات. في غضون ذلك، اختارت اللجنة الأولمبية الدولية باريس، وميلانو-كورتينا دامبيزو، ولوس أنجليس، وبريسبان لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2024 و2026 و2028 و2032 على التوالي.
نتيجةً لذلك، اعتبارًا من الآن، سيشهد العقد المقبل استضافة الدول الغربية فقط للأولمبياد وكأس العالم، على الرغم من عدم اختيار البلد المضيف لدورة ألعاب 2030 حتى الآن. قارن ذلك بالعقد السابق، الذي شهد فقط الدول غير الغربية هي التي تقوم ذلك.
برّرت المنظمتان هذا التحوّل إلى حدٍّ كبير على أنه محاولة لإعطاء الأولوية للتكاليف المُنخفضة والتأكيد على الاستدامة من خلال استخدام البنية التحتية الحالية. كأس العالم المقبلة في العام 2026، على سبيل المثال، ستستخدم الملاعب الموجودة فقط، والتي ستتطلب حفنة منها فقط تجديدات تتجاوز التعديلات الطفيفة.
كما أوضحت اللجنة الأولمبية الدولية أنها لا تريد إنشاء أماكن جديدة دائمة للأولمبياد. بدلًا من ذلك، ستعتمد الألعاب على تعديل الأماكن الحالية، وبناء هياكل مؤقتة، وإقامة مسابقات خارج المدينة المضيفة، أو حتى خارج البلاد – على سبيل المثال، ستُقام رياضة ركوب الأمواج في باريس 2024 في منتصف الطريق حول العالم في بولينيزيا الفرنسية.
قال كريستوف دوبي، المدير التنفيذي للألعاب الأولمبية، لمجلة “دِزِين” (Dezeen) في وقت سابق من هذا العام: “الهدف هو الذهاب إلى حيث توجد جميع الخبرات والأماكن”. وزعَمَ دوبي في المقابلة نفسها، أنه على الرغم من التغيير، فإن أيَّ مدينة في العالم ستظلّ مؤهّلة للاستضافة.
ولكن هل يُمكن أن تأملَ “أيُّ” مدينة فعلًا القيام بذلك؟ لدى “فيفا” واللجنة الأولمبية الدولية حافزٌ ضئيلٌ للمخاطرة باختيار “أيِّ مُضيف”، بعد أن تعرّضت كلتا المنظّمتَين لانتقاداتٍ خلال العقد الماضي لاختيارهما بلدانٍ مُضيفة تتمتّع بسجلٍّ حقوقي رديء، والسماح لها بتحمّل تكاليف باهظة وطرد مواطنيها، وبالتالي غضّ الطرف عن كل هذه الأمور بسبب “الغسيل الرياضي”.
من الواضح أن المسؤولين في المنظّمتَين قد اختاروا اللعب بأمان في الوقت الحالي، ويبدو أنهم مستعدّون لمواصلة القيام بذلك. على سبيل المثال، أوقفت اللجنة الأولمبية الدولية نظام العطاءات الخاص بها، ما يعني أنه لم تَعُد هناك مُقتَرَحات برّاقة وموازنات طموحة. الآن، عملية الاختيار هي مجرّد حوارٍ مفتوح مع المُضيفين المُحتَمَلين. في غضون ذلك، تضع “فيفا” الآن حقوق الإنسان ومتطلبات العمل كشرطَين أساسيين لقبول العطاءات، وهي خطوة يمكن اعتبارها ضمانة لمنع دولة مثل قطر -التي تعرّضت لانتقاداتٍ بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان ونظام العمل- من الاستضافة مرّة أخرى. كِلا التغييرَين يُقلّلان من فرصة الاختيار “المحفوف بالمخاطر” في العصر الجديد.
ستبدأ تلك الحقبة الجديدة في غضون عامين، في دورة الألعاب الأولمبية في باريس، ومن المُحتمَل أن تؤدي التكاليف المنخفضة والتأثير المجتمعي السلبي الأصغر على السكان وزيادة التركيز على حقوق الإنسان إلى تجربةٍ شاملة أفضل للمُضيفين والمنافسة. لكن تلك الحقبة الجديدة في الأحداث الرياضية العالمية تتزامن مع حقبةٍ جديدة في السياسة العالمية، حقبةٌ تُحدِّدها مُنافسةُ القوى الكبرى، والموتُ المُحتَمَل للعَولَمة، وعلى الأقل بالنسبة إلى بعض المراقبين، حربٌ باردة جديدة.
في حين أن أنظمةَ الاختيار الجديدة الخاصة بـ”فيفا” واللجنة الأولمبية الدولية هي، بهامشٍ كبير، مكاسبٌ صافية لهذه الأحداث الرياضية العالمية، فمن الجدير الأخذ بالاعتبار ما فُقِدَ من خلالِ اختيارِ موقعِ هذه الأحداث، بكل تأثيرها الثقافي الهائل، في جانبٍ واحدٍ من عالمٍ مُنقَسِمٍ بشكلٍ متزايد.