لأنَّ الغربَ يتمنّى ولا يَحزُم، الحربُ الشاملة في الشرق الأوسط ستندلع؟ | بقلم غابي طبراني
منذُ هجومِ “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، استُخدِمَ مُصطَلَحٌ “غير مَسبوق” بشكلٍ مُتَكَرِّرٍ لوصفِ دورةِ التصعيد الحالية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. سواءَ كان الأمرُ يتعلّقُ بتدميرِ قطاع غزة على أيدي الجيش الإسرائيلي في أعقاب هجوم “حماس”، أو تَوَسُّعِ نطاقِ الأعمال العدائية لتشمل “حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن، وداعميهما في إيران، فإنَّ حجمَ الصراعِ الهائل صَدَمَ العديدَ من المُراقبين. مع ذلك، وبعيدًا من كونه غير مسبوق، فإنَّ الإرثَ المُتَبَقّي من الصراعات السابقة في المنطقة لا يزالُ يؤثِّرُ بشكلٍ مُباشَرٍ في التوتّرات الحالية بين إسرائيل وخصومها الإقليميين. وقد تُساعِدُ نظرةٌ فاحصةٌ على هذه السوابق صنّاعَ السياسات الغربيين والإقليميين على فَهمِ التحدّياتِ التي يواجهونها الآن بشكلٍ أفضل.
إنَّ دوراتَ الصراعِ السابقة التي شَمَلت إسرائيل ولبنان والفلسطينيين بين العامين 1978 و2006 يُمكِنُ أن تُوَفِّرَ رؤى مفيدة بشكلٍ خاص حول التأثير الطويل الأجل الذي يُمكِنُ أن تُخَلّفهُ ديناميكيات الصراع هذه في المنطقة. في حالاتٍ عدة، فوجئت الجهات الفاعلة الخارجية والقوى الإقليمية بالسرعة التي اندلعت بها الحرب، على الرُغمِ من الدلائل المتزايدة على أنَّ النظامَ الإقليمي الهَشّ كان على وشكِ الانهيار.
عندما يتعلّقُ الأمرُ بفَهمِ دوافِعِ مُختلفِ الجهاتِ الفاعلةِ المُشارِكةِ في دوراتِ التصعيد هذه، فإنَّ الخطأَ الرئيس الذي ارتكبهُ صُنّاعُ السياسات الخارجيون هو الاعتقادُ لفترةٍ طويلةٍ جدًا بأنَّ عددًا كافيًا من اللاعبين على الأرض لديهم الكثير ليخسروه من المواجهة الكاملة والشاملة لدرجةٍ أنَّهُم سيَتَجَنَّبونها إلى أجلٍ غير مُسمّى. قبل هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيلِ المثال، افترضَ صُنّاعُ السياساتِ في المنطقة وخارجِها أنَّ شريحةً واسعةً من القيادةِ الفلسطينية لديها مصلحةٌ إيجابية في الوضع الراهن الإقليمي لضمان استقرار الشرق الأوسط. وقد تجاهَلَ هذا الافتراضُ استعدادَ شخصياتٍ مثل يحيى السنوار –أعلى سلطة في “حماس” في غزة آنذاك والذي تولّى الآن القيادة العامة للمجموعة- للمُخاطَرة بالإبادة الشخصية والجماعية لإلحاقِ الألم بإسرائيل وإعادةِ قضية الدولة الفلسطينية وتقرير المصير إلى الأجندة الإقليمية. وعلى نحوٍ مُماثل، في الأسابيع التي أعقبت الهجوم، بدا كثيرون من الديبلوماسيين والمسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا مُقتَنِعين بأنَّ حكومة “الطوارئ الوطنية” الإسرائيلية التي تضمُّ أحزاب المعارضة الوسطية يُمكِنُ أن تكبحَ جماحَ سلوكِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الحرب في غزة. لكنهم في هذا تجاهلوا عمدًا حقيقةً مفادها أن نتنياهو والمتطرِّفين اليمينيين الذين يُدينُ لهم بالولاء ــمثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ــ لديهم حوافز شخصية وسياسية قوية لمواصلة التصعيد، حتى لو أدّت الحرب إلى معاناةٍ إنسانيةٍ مُدَمِّرة للفلسطينيين وتقويضِ التماسُكِ الداخلي في إسرائيل.
على مدى العقودِ القليلةِ الماضية، كانت هناكَ سوابِق مُماثلة عندما يتعلق الأمر باستعداد الجهات السياسية الإسرائيلية والفلسطينية لاتباع التصعيد انطلاقًا من السعي إلى نقاءٍ إيديولوجي أو مكاسب سياسية شخصية. ولعلَّ أوضحَ مثالٍ على الدمار الذي يُمكنُ أن تُحدِثهُ مثل هذه الديناميكيات هو الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 لطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. في حين أعربَ بعض كبار المسؤولين الفلسطينيين فضلًا عن العديد من الجنرالات الإسرائيليين في ذلك الوقت للصحافيين عن مخاوفهم بشأنِ الدورة الخطرة من التصعيد التي سبقت الغزو، فقد أقنع مسؤولون آخرون من كلا الجانبين أنفسهم بأنهم قادرون على تحقيقِ مجدٍ شخصي من حربٍ توقّعوا أن تُوَلِّدَ رابحين وخاسرين واضحين.
بين التحرُّكِ الإسرائيلي الأوَّلي لإنشاءِ ما يسمى بالمنطقة الأمنية في جنوب لبنان في العام 1978 والدوّامة النهائية نحو الغزو الإسرائيلي الكامل في العام 1982، أدّت مؤامراتٌ من قبل شخصيات من كلا الجانبين ضد منافسيهم الداخليين إلى تأجيجِ التصعيد نحو الصراع. لقد عكست الصفقاتُ السرّية التي أبرمها وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون مع الميليشيات المسيحية اللبنانية المُعادية للفلسطينيين طموحاتٍ أوسع نطاقًا لإعادةِ تشكيلِ توازُنِ القوى في الشرق الأوسط. لكن هذه المقامرات الجيوسياسية غير المسؤولة كانت مُتشابِكة مع طموحاتِ شارون في تأمينِ وضمان هَيمَنةِ حزبه الليكود على السياسة الداخلية الإسرائيلية. في الوقت نفسه، أدت التنافُسات بين الفصائل القيادية الفلسطينية إلى دفع حركة “فتح-المجلس الثوري” المُنشَقّة التي كان يتزعّمها “أبو نضال” (حسن البنّا) إلى اغتيالِ ديبلوماسي إسرائيلي في لندن لتقديم نفسها كبديلٍ أكثر تطرُّفًا من حركة “فتح” التي كان يتزعمها آنذاك ياسر عرفات. وقد وَفّرَ هذا الأمرُ لشارون ذريعةً لبدءِ خططه لغزو لبنان وتقسيمه.
حتى في الوقت الذي كان شارون يستفزُّ رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن ليأمُرَ بشَنِّ هجومٍ شاملٍ على لبنان، ظلَّ الديبلوماسيون الغربيون يعتقدون أنَّ الصراعَ الذي بدا بوضوحٍ ضدّ المصالح الذاتية لكلا الجانبين يُمكن تجنُّبه. وقد أدّى سوءُ فَهمِ الكيفية التي يُحَدِّدُ بها اللاعبون على الأرض مصالحهم الفئوية إلى تيسيرِ مهمّةِ شارون في إخفاءِ الأهدافِ الاستراتيجيةِ الطموحةِ الجامحةِ، التي كانت تنبعُ من تحالفِهِ مع الميليشيات المسيحية اللبنانية، عن المسؤولين في واشنطن. أمّا بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فإنَّ التركيزَ على تأكيدات عرفات بأنه يأملُ في تجنُّبِ التصعيد، قد جعلَ القوى الإقليمية العربية والقوى الأوروبية الغربية التي كانت تُحاول كبحَ جماح الفلسطينيين تُقلّلُ من تقدير مدى اليأس على مستوى القاعدة الشعبية الذي خلق فُرصًا للجماعات المُتَطَرِّفة لكَسبِ الدعم من خلال هجماتٍ تخدم مصالح شارون.
إنَّ الأصداء بين عجزِ العديدِ من الديبلوماسيين الغربيين عن فَهمِ كيفَ شَكَّلت الخصومات الداخلية بين الفصائل سلوكَ الجانبين في العام 1982 وفي العام 2023 مُرتَبِطٌة بالديناميكية الرئيسة المُتكرِّرة الأُخرى في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني التي أدّت في كثيرٍ من الأحيان إلى إبطاءِ الجهود الرامية إلى وقفِ دورةِ التصعيد من الخروج عن نطاق السيطرة. فمنذُ المعارك الأولى بين العصابات الصهيونية (والجيش الإسرائيلي الناشئ) وجيوش الدول العربية المجاورة في العام 1948 فصاعدًا، كانت الخطوات النهائية نحو الحرب الإقليمية الشاملة تسبقها دائمًا فتراتٌ طويلة من المناوشات المحدودة. وخلال هذه الفترات من العنف المُقَيَّد، كان كثيرون من المراقبين غالبًا متفائلين بإمكانية العثور على نوعٍ من الصيغة لاستعادة الاستقرار في المنطقة.
لقد تخلّلَت الانزلاقَ نحو الغزو الإسرائيلي الكامل للبنان في العام 1982 لحظاتٌ من الثقةِ المُفرِطةِ بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية وغيرها من القوى الرئيسة بشأن مدى قدرتها على التحكُّمِ في مسارِ الصراع. ولم يَكُن من المفيد أنَّ الحكومةَ التي يقودها حزب الليكود كانت في ذلك الوقت تعملُ على الانتهاءِ من اتفاقِ سلامٍ بين إسرائيل ومصر، الأمرُ الذي جعل الحكومات الغربية مُتردِّدة في الضغط على تل أبيب لتجنُّبِ العمليات العسكرية بعد أن انتهت الهجمات التي شنّتها منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية بمقتل عشرين إسرائيليًا. وكانت النتيجة هي الغزو الإسرائيلي الأوَّلي في العام 1978 الذي زعزعَ استقرارَ لبنان جنوب نهر الليطاني ودفع أكثر من مئة ألف لاجئ إلى الفرار من المنطقة. وعندما غضّت الولايات المتحدة وحكومات أوروبا الغربية الطرفَ في وقتٍ لاحق عن الصفقات بين الجيش الإسرائيلي والفصائل المسيحية اللبنانية المحلية المُعادية لمنظمة التحرير الفلسطينية، سمح ذلك للظروفِ بأن تتشكّلَ بحلولِ العام 1982 لتمكين شارون من متابعة خطته الكبرى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
لقد أثّرَ هذا الرضا عن الذات، إزاءَ اندلاع العنف بشكلٍ مُنتَظِمٍ بين إسرائيل وخصومها الحاليين، في الديبلوماسية الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط على مدى العقد الفائت. فقد عُومِلَت الحربُ الخفية خلال ذلك الوقت بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والإيرانية بشكلٍ متزايد من قبل واشنطن وبروكسل باعتبارها جانبًا روتينيًا من السياسة الإقليمية، في حين أن الغارات الجوية الإسرائيلية على “حزب الله” وشركائه الإيرانيين في لبنان وسوريا، والانتقام المتقطّع تقريبًا الذي أعقبَ ذلك، كان يتم تجاهلها بانتظام باعتبارها مشكلة مؤقتة. إنَّ حقيقةَ أنَّ الصراعات الدورية بين “حماس” والجيش الإسرائيلي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان يتمُّ نزعُ فتيلها عادةً بعد بضعة أيام أو أسابيع عزّزت الشعور بأنَّ نوباتَ العنفِ التي زعزعت استقرارَ المجتمع الإسرائيلي وأوقعت خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين لن تتسبب في اضطراباتٍ جيوسياسية أوسع نطاقًا.
حتى بعد الهجوم الذي شنّهُ مقاتلو “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) والذي أحدثَ صدمةً للمجتمع الإسرائيلي، والهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة الذي أعقب ذلك، فإنَّ نَهجَ صُنّاعِ السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا ما زالَ يَتَشَكَّلُ على أساس الآمال العبثية في احتواءِ أيِّ آثارٍ جانبية للصراع. الواقع أنَّ حقيقةَ أنَّ إسرائيل و”حزب الله” قد تجنَّبا الحرب الشاملة حتى الآن، على الرُغم من تبادل إطلاق النار اليومي الذي أدّى إلى نزوح عشرات الآلاف من الناس على جانبَي الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، فقد زاد ذلك من التفاؤل في بعض الدوائر الديبلوماسية. وتعزّزت الآمال في أن تُدرِكَ كلُّ الأطرافِ أنَّ السعيَ إلى خفضِ التصعيدِ يصبُّ في مصلحتها الذاتية خصوصًا بعد احتواءِ تبادُلِ إطلاق النار بين إسرائيل وإيران في نيسان (أبريل) بعد ديبلوماسية خلفية مُكَثّفة إنخرطت فيها الولايات المتحدة ودولٌ إقليمية رئيسة.
مع ذلك، على أملِ حصولِ الأفضل مع التغاضي عن الأسوَإِ، تُكرّرُ الولايات المتحدة وأوروبا العديد من الأخطاء التي ارتكبتاها عندما حاولتا تجنُّبَ الصراعات السابقة. وكما ساعدت الثقة المُفرِطة بين الديبلوماسيين الغربيين في العام 1982 على خَلقِ الفُرَصِ ل”أبو نضال” وأرييل شارون لقلب الوضع الراهن غير المستقر، فإنَّ افتراضَ اليوم أنَّ القنوات الخلفية والإشارات من خلال هجمات محدودة تُمثّلُ طريقًا إلى الاستقرار، ناهيك عن السلام، لا يُوفّرُ إلّا مساحةً لجيلٍ جديدٍ من روّاد الصراع لمتابعة مصالح فصائلهم على حساب مصالح عشرات الملايين من المدنيين.
بدلًا منَ الادِّعاء بأنَّ الموجةَ الحالية من الصراع التي تُهدّدُ السكان الفلسطينيين والإسرائيليين واللبنانيين غير مسبوقة، يحتاجُ صُنّاعُ السياسات في الشرق الأوسط وخارجه إلى النظر عن كثبٍ في الدروس التي يُمكِنُ تعلُّمها من كيفية اجتياح دورات التصعيد السابقة للمنطقة. في بيئةٍ حيثُ قد تدفع الحوافز البنيوية في السياسة الداخلية القادة نحو تبنّي الحرب بدلًا من العمل من أجل السلام، تحتاجُ واشنطن وبروكسل إلى ممارسةِ الضغط بسرعةٍ وحَزمٍ على أيِّ جهةٍ فاعلةٍ من الدول أو غير الدول تسعى إلى التصعيد. إذا سمحَ صنّاعُ السياسات الغربيون والإقليميون مرةً أُخرى للرضا عن الذات بالتسرُّبِ إلى نهجهم الاستراتيجي تجاه الشرق الأوسط، فسوف يجدون أنفسهم مدفوعين جانبًا من قبل أولئك الذين يريدون فقط مشاهدة المنطقة تحترق.