ماذا يعني سقوط الأسد لإسرائيل؟ | بقلم غابي طبراني
عندما فرَّ الدِكتاتور السوري بشار الأسد من البلاد يوم الأحد الفائت، بعدما فَشلَ جيشه بالتحرُّكِ لمُواجهةِ تَقدُّمٍ خاطفٍ للمتمرّدين المُناهضين لنظامه، كان ردُّ الفعل جنوب الحدود في إسرائيل أشبه ببقية العالم: الدهشة من سرعة الأحداث والسعادة بانتهاءِ نظامٍ مُعادٍ. مع ذلك، كان الشعورُ الإيجابي معتدلًا بسبب قدرٍ من القلق بشأن أمن إسرائيل ذاتها.
فسوريا، بَعدَ كلِّ شيء، تقعُ على الحدودِ الشمالية لإسرائيل. وعلى الرُغم من أن الأسد قد لعب دورًا رئيسًا في استراتيجية إيران لتطويق الدولة العبرية بالشركاء والوكلاء والعملاء، فقد حرصَ على عدمِ الانخراطِ في اشتباكاتٍ مباشرة خلال عقوده في السلطة. لهذا السبب، منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، نظرت إسرائيل إلى الأسد باعتباره الشيطان الذي تعرفه، ما جعله مُفَضَّلًا لديها على عدم اليقين بالنسبة إلى بعضِ البدائل التي ربما كانت لتحلّ محله لو سقط.
إذا أدّى فرارُ الأسد الآن إلى جلب السلام والاستقرار إلى سوريا، مع إنهاءِ هيمنة إيران هناك، فإنَّ هذا من شأنه أن يُتَرجَمَ إلى تحسُّنٍ كبير في الوضع الأمني في إسرائيل. وعلى العكس، إذا تحوّلت سوريا إلى دولةٍ جهادية يُهيمِنُ عليها الإسلاميون أو انحدرت إلى الفوضى والاضطرابات والصراع بين الجماعات المتطرّفة المسلّحة، فقد يؤدّي هذا إلى خلقِ صداعٍ جديدٍ خطير.
من المُبكر جدًّا أن نُحدِّدَ أو نعرفَ الاتجاه الذي ستسلكه سوريا، ولكن في المحصلة النهائية يبدو من المرجح أن يتحوّلَ سقوط نظام الأسد، على الأقل في المدى القريب، إلى أمرٍ إيجابي صافٍ لإسرائيل. ذلك أنَّ أكبرَ مخاوفها الأمنية تنبعُ من إيران، وسقوط الأسد ــإلى جانب الدمار الذي ألحقته إسرائيل ب”حزب الله”، أقوى عملاء طهران ــ أدّى إلى تفكيكِ “وحدة الساحات”، استراتيجية إيران لتطويق المنطقة. في عهد الأسد، وفّرت سوريا الجسرَ البري الحيوي لنقل الأسلحة والذخيرة والأفراد من إيران إلى لبنان، حيث بنى الحزب ترسانةً ضخمة من الصواريخ والقذائف والطائرات المُسيّرة. كانت قوة “حزب الله” تُمثّلُ الورقة الرابحة لطهران وخط دفاعها الأول في أيِّ مواجهةٍ مُحتَملة مع إسرائيل. وإذا خاضت الدولة العبرية والجمهورية الإسلامية حربًا، فكان من المُنتَظَر أن يَمطُرَ “حزب الله” مئات الآلاف من الصواريخ على طول مساحة إسرائيل. والآن تم القضاء على قيادة “حزب الله”، وتدمير معظم ترسانته. وتبدو قدرة إيران على إعادة بنائها، في ظلِّ الوضع الجديد في سوريا، صعبةً إلى حدٍّ كبير.
بَيدَ أنَّ انهيارَ استراتيجية إيران يخلقُ مخاوف جديدة. يخشى الخبراء أن يدفعَ الواقعُ الجديد إيران نحو امتلاك أسلحة نووية. لقد أعلن رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل ماريانو غروسي، بعد زيارته الأخيرة لطهران، أنَّ إيران سرّعت من أنشطتها لتخصيب اليورانيوم، الأمرُ الذي دفع فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا إلى إعلان “القلق الشديد”. وفي ظل هذه الظروف، ومع احتمالِ تصلّب السياسة الأميركية تجاه إيران بمجرّد عودة الرئيس المُنتَخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبدو احتمالات اختيار إسرائيل قصف المنشآت النووية الإيرانية أعلى كثيرًا. ولا يُمكِنُ استبعاد الحرب بين إيران وإسرائيل، التي تم تجنّبها بصعوبةٍ بالغة حتى الآن في مناسبتين على الأقل هذا العام.
عندما يتعلّق الأمرُ بسوريا، فإنَّ أحدَ أكبر الأسئلة في أعقاب انتصار المتمرّدين هو عن الإيديولوجية والأجندة الحقيقية التي تُحرّكُ المجموعة الرئيسة التي أطاحت الأسد. إنَّ “هيئة تحرير الشام”، التي كانت تُسمّى “جبهة النصرة”، هي أحدثُ تجسيد لجماعةٍ تابعة لتنظيم “القاعدة” سابقًا. كان زعيمها، أحمد الشرع، المعروف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، من أوائل رفاق أبو بكر البغدادي، مؤسّس تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). تم إرساله إلى سوريا، بلده الأصلي، لتوسيع الجهاد الذي نشأ عن الحرب في العراق.
لكن بمجرّد وصوله إلى هناك، انتهى به الأمر إلى تشكيل “جبهة النصرة” ثم الانفصال عن الجماعات الأم، وإعادة تسمية منظمته “هيئة تحرير الشام” كميليشيا إسلامية ذات طابع قومي. بدلًا من العمل نحو الجهاد العالمي، ركزت “هيئة تحرير الشام” على مواجهة نظام الأسد في سوريا. في مقابلةٍ مع شبكة “سي أن أن” في الأسبوع الفائت، أعلن أنَّ سوريا مُلكٌ لجميع شعبها. كانت رسالةً موّجَّهة إلى الولايات المتحدة، التي تعتبره إرهابيًا مطلوبًا، وإلى بقية العالم مفادها أنه يمكنهم الوثوق به.
ليس من الواضح ما هي آراء الجولاني بشأن إسرائيل. لكن من الجدير بالذكر أن اسمه الحركي يعني الجولان -المنطقة الجبلية التي تمثل الحدود بين سوريا وإسرائيل- التي ولد في إحدى قراها “فيق”، والتي نزحت عائلته عنها عندما احتلتها إسرائيل في حرب العام 1967. بعد أن صدّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا من سوريا ومصر في العام 1973، أنشأت اتفاقية فك الارتباط التي أنهت القتال منطقةً عازلة منزوعة السلاح بجوار الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل -التي ضمّتها في العام 1981- على الجانب السوري من الحدود.
كانت هذه الاتفاقية قائمة حتى أيامٍ قليلة مضت. فبعد ساعات فقط من ظهور الجولاني في المسجد الأموي القديم في دمشق لإعلان النصر على الأسد نيابة عن الأمة الإسلامية ــوهي نبرةٌ أقل تعدُّدية بكثير من الكلام الذي أدلى به في مقابلته مع شبكة “سي أن أن”ــ تحرّكت القوات الإسرائيلية عبر تلك الحدود، واستولت على المنطقة العازلة على الجانب السوري.
وصفَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا التحرُّك بأنه “موقفٌ دفاعي مؤقت”، يهدفُ إلى حماية أمن إسرائيل أثناء تطور الأحداث في سوريا ــ وهي بوليصة تأمين في حالة استيلاء الفوضى على السلطة. بالإضافة إلى ذلك، شنّت إسرائيل غارات جوية مُكثّفة على مستودعات سورية للأسلحة الكيميائية والذخائر الثقيلة والسفن والطائرات الحربية ومراكز الجيش السوري، ما أدى إلى تدمير جُزء كبير من البنية التحتية العسكرية لنظام الأسد المخلوع. وفسّرَ الخبراء هذه الخطوة على أنها ضربةٌ استباقية لمنع القوى المتطرّفة من الاستيلاء على ترسانات يُمكن استخدامها ضد إسرائيل.
من ناحية أخرى، قوبلت مزاعم الجولاني بأنه يدعمُ التعدّدية في جميع أنحاءِ بلدٍ مُقَسَّمٍ بين السنة والشيعة والدروز والعلويين والأكراد والمسيحيين والإسماعيليين … بقدرٍ من التشكك. على مدى السنوات القليلة الماضية، سيطرت مجموعته على إدلب، في شمال سوريا. وفي حين كان حكمه استبداديًا متشدّدًا بشكلٍ حاسم وتحكمه الشريعة الإسلامية، إلّا أنه لم يشبه وحشية تنظيم “الدولة الإسلامية” القديم. مع ذلك، فمن غير المعروف ما إذا كان نهجهُ التصالُحي واجهةً تكتيكية أم تحوُّلًا حقيقيًا إلى التعدّدية.
حتى لو عادَ إلى جذوره الإسلامية، فإنَّ الجولاني وغيره من السوريين سيكونون مشغولين بإعادة بناء البلاد إذا تمكّنوا من الحفاظ على السيطرة. وإذا لم يفعلوا ذلك، فقد يكونون أكثر انشغالًا بمحاربة الميليشيات المتنافسة. ومن المفترض أن تكون محاربة إسرائيل، إذا كان هذا هو الهدف، في مرتبةٍ أدنى على أجندتهم.
إنَّ انهيارَ نظام الأسد يخلقُ مخاوف أخرى لإسرائيل. فقد استفادت “هيئة تحرير الشام” من الدعم المباشر وغير المباشر من تركيا، من خلال دعم أنقرة للعديد من الجماعات المتمرّدة التي يضمّها التحالف المتمرّد الذي استولى على دمشق. وفي الآونة الأخيرة، أصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أحد أكثر المنتقدين صراحةً لإسرائيل في المنطقة، بالإضافة إلى استضافته العديد من قادة “حماس” المنفيين. إنَّ سقوطَ الأسد وظهور “هيئة تحرير الشام” باعتبارها اللاعب الأكثر قوة في سوريا يخلق إمكانية أن يصبح أردوغان شخصية مؤثّرة في دمشق. وهذا ليس مصدر قلق للأكراد السوريين فحسب -الذين يعتبرهم أردوغان أعداء- بل وأيضًا لإسرائيل.
كما إنَّ الوضعَ مقلقٌ لإسرائيل لأنَّ هناك خطرًا محتملًا على استقرار الأردن الناجم عن الاضطرابات في سوريا. فقد يكتسب نشطاء الإخوان المسلمين في الأردن الجرأة من نجاح الجهاديين السنّة في سوريا، وإذا تحدّت الجماعات المنافسة هيمنة “هيئة تحرير الشام”، فقد يؤثر عدم الاستقرار على الأردن، وهي دولة قابلة للإشتعال في هذه الظروف. بالنسبة إلى إسرائيل، فإنَّ الاستقرارَ في الأردن ــإحدى أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، والتي يقطنها الملايين من الفلسطينيين ــ أمرٌ حيوي.
هناكَ العديدُ من السيناريوات المحتملة في هذه المرحلة المبكرة من حقبة ما بَعدَ الأسد في سوريا. بالنسبة إلى إسرائيل، فإنَّ العديدَ منها يتضمن مشاكل جديدة. ولكنَّ العواقب المباشرة لسقوط الأسد إيجابية بكل تأكيد، لأنها تُضعفُ العدو الأكبر والأكثر إلحاحًا للدولة العبرية: الجمهورية الإسلامية الإيرانية.