الاحدثالشرق الاوسط

ميناء بندر عباس الإيراني تداعيات الانفجار والأهمية الاستراتيجية

1. التاريخ وتطور الميناء: من “جامبرون” إلى محور إستراتيجي
الجذور القديمة:
لم يكن ميناء بندر عباس مجرد نقطة تجارية، بل رمزًا للصراعات الإمبراطورية. تأسس في العصر الساساني كمركز لتصدير اللؤلؤ، لكن البرتغاليين احتلوه عام 1507 تحت قيادة ألفونسو دي ألبوكيرك، وحولوه إلى قاعدة للسيطرة على مضيق هرمز.
الصراع الصفوي البرتغالي: استعاد الشاه عباس الأول الميناء عام 1622 بتحالف مع البريطانيين (شركة الهند الشرقية)، مما أنهى الهيمنة البرتغالية ورسخ اسم “بندر عباس” كإرث صفوي.

التحول الحديث:
في السبعينيات، حوّل نظام الشاه الميناء إلى مركز للتصدير النفطي عبر استثمارات ضخمة في البنى التحتية. لكن الثورة الإسلامية (1979) والحرب العراقيةالإيرانية (1980-1988) قلصتا دوره، قبل أن يعاود الصعود مع تشديد العقوبات الغربية (2010+)، ليصبح منفذ إيران الحيوي لتفادي الحصار.

2. التجارة البحرية: شريان هش في قلب مضيق هرمز
ممرات النفط والصراع الدولي:
يمر عبر الميناء 1718 مليون برميل نفط يوميًا (30% من الإمدادات العالمية)، مما يجعله هدفًا للتهديدات في ظل التوتر مع الولايات المتحدة وحلفائها.
الانفجار الأخير: لم يكن الأول من نوعه (يشبه هجمات 2019 على ناقلات قرب الفجيرة)، لكن توقيته – مع تجدد المفاوضات النووية – يطرح أسئلة عن فاعلية الأمن البحري الإيراني، وقدرة طهران على حماية مصالح الصين وروسيا، الشريكين الرئيسيين في استيراد النفط الإيراني.

التأثير على سلاسل الإمداد:
قد يؤدي إغلاق جزئي للميناء إلى ارتفاع أسعار الشحن البحري بنسبة 20- 30% (كما حدث خلال أزمة 2021 مع احتجاز ناقلة “ستينا إمبيرو”)، وتوجيه التجارة نحو الموانئ البديلة مثل ميناء صحار العُماني أو جبل علي الإماراتي.

3. القيمة الاقتصادية: محرك تنمية أم ضحية للعقوبات؟
أرقام مفصلية:
يسهم الميناء بـ 7% من إجمالي الناتج المحلي الإيراني (2022)، ويستوعب 45% من حجم التجارة غير النفطية.
المنطقة الحرة التابعة له جذبت استثمارات صينية بقيمة 1.2 مليار دولار (2016-2020) في قطاعات الطاقة والسيارات، لكن العقوبات الأمريكية قلصتها إلى 400 مليون دولار (2023).

التنمية الإقليمية المفقودة:
رغم خطط الربط مع شبكة السكك الحديدية الإيرانية (مشروع “الشمال- الجنوب”)، فإن الفساد الإداري ونقص التكنولوجيا حدّا من تحويله إلى مركز لوجستي عالمي، مقارنة بجاره الإماراتي ميناء خليفة.

4. طريق الحرير والممر الهندي: أداة إيرانية لموازنة القوى
الصين وحلم “الحزام والطريق”:
تعتمد بكين على الميناء كواحد من “الموانئ الستة الاستراتيجية” في غرب آسيا ضمن مبادرتها، لكن الانفجار الأخير قد يدفعها لتسريع تطوير ميناء تشابهار (الممول جزئيًا بالشراكة مع الهند)، لتجنب الاختناقات.

الممر الهندي والصراع مع باكستان:
الهند، التي استثمرت 500 مليون دولار في تشابهار، ترى في بندر عباس وتشابهار مخرجًا من طوق باكستان (حليفة الصين) نحو آسيا الوسطى.
الانفجار يُذكر بأزمة الهجوم على ناقلة النفط الإسرائيلية قرب عُمان (2021)، مما يعزز توجه نيودلهي لتعزيز التعاون الأمني البحري مع واشنطن في بحر العرب.

5. تداعيات الانفجار: سيناريوهات جيوسياسية مُحتملة
السيناريو الأول: تصعيد عسكري ممنهج
إذا ثبت تورط جهات خارجية (إسرائيل/ الولايات المتحدة)، قد ترد إيران باستهداف ناقلات نفط أو منشآت في موانئ خصومها، مما يعطل 40% من تجارة الخليج، ويرفع أسعار النفط إلى 150 دولارًا للبرميل.

السيناريو الثاني: تفعيل التحالفات البديلة
قد تسرع روسيا من خطط ربط الميناء بشبكة النقل الدولية عبر أستارا (إيران-أذربيجان)، لضمان تدفق البضائع إلى أوروبا رغم العقوبات.
الصين قد تعلن عن “قوة عمل مشتركة” لحماية الممرات البحرية، مستغلة وجودها في قاعدة جيبوتي.

السيناريو الثالث: تفكك الثقة الإقليمية
دول الخليج، خاصة الإمارات وعُمان، قد تعيدون هيكلة تحالفاتهم البحرية مع الهند والغرب، وتستثمرون أكثر في موانئ بعيدة عن مضيق هرمز (مثل ميناء الدقم العُماني).

الخلاصة: الميناء كـ”ورقة ضغط” في لعبة القوى العظمى
الانفجار ليس حدثًا أمنيًا عابرًا، بل مؤشر على ثلاثة تحولات كبرى:
1. تراجع الهيمنة الأمريكية على أمن الخليج، مع صعود لاعبين جدد (الصين/ الهند) لملء الفراغ.
2. تحول الموانئ إلى ساحات حرب هجينة، حيث تُستخدم الأزمات الأمنية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.
3. إيران كفاعل غير مستقر، فبينما تريد تحويل موانئها إلى أدوات للقوة الناعمة، فإن إدارتها الأمنية الهشة تُضعف هذه الاستراتيجية.

هذا الحدث قد يُعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة، حيث تُصبح الموانئ الإيرانية حقل اختبار لقدرة طهران على التحول من دولة مُحاصَرة إلى شريك لا غنى عنه في شبكة التجارة الآسيوية الجديدة.

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام)

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام) هو وحدة بحثية تابعة لموقع "الملف الاستراتيجي"، تُعنى برصد وتحليل السياسات العامة، وتحولات الشركات الكبرى، والديناميات الجيوسياسية التي تسهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والبُنى المؤسسية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. ينطلق المركز من منظور استشرافي علمي يهدف إلى تجاوز التحليلات الظرفية، من خلال تتبّع الأنماط الكبرى في السياسات والتحولات المعرفية، وفهم التفاعلات المعقدة بين الدول، والشركات العابرة للحدود، والمجتمع المدني، والمنصات الرقمية. يركز المركز بشكل خاص على دراسة السياسات الوطنية في دول الشرق الأوسط، وتحليل استراتيجياتها في مجالات الحوكمة، وإعادة التموضع الإقليمي، والتفاعل مع التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية. كما يعالج المركز القضايا المتصلة بمستقبل السيادة الرقمية والمعرفة، ودور الفاعلين غير التقليديين في التأثير على صنع القرار وتشكيل الفضاء العام. يعتمد المركز في إنتاجه المعرفي على مقاربة تحليلية حيادية تلتزم بالصرامة المنهجية والموضوعية، بعيدًا عن التحيزات السياسية أو الإيديولوجية، ويسعى إلى تقديم فهم مركب ومسؤول للتحولات الراهنة، بما يخدم الباحثين وصنّاع السياسات والمشتغلين في حقل التفكير الاستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى