قراءة في خطة واشنطن الجديدة : الهيكلة الإقليمية | بقلم د. عوض سليمية
في حديثه مع الصحفي توماس فريدمان على هامش جلسات المؤتمر الاقتصادي الدولي المنعقد في دافوس بتاريخ 17 يناير 2024، كشف وزير الخارجية الامريكي بلينكن عن مصطلح جديد اطلق عليه “الهيكلة الاقليمية”، Regionalization والتي تسعى واشنطن لتحقيقها ضمن سياستها الجديدة في منطقة الشرق الاوسط.
في الواقع، فإن هذا المصطلح “الهيكلة الاقليمية” ما إلا هو مفردة مماثلة للمصطلحات القديمة الجديدة التي دأبت الادارات الامريكية المتعاقبة على ترويجها سابقاً وحاضراً، بما فيها: الشرق الاوسط الجديد، الشرق الاوسط الكبير، ناتو الشرق الاوسط، تحالف الشرق الاوسط… والان “الهيكلة الاقليمية”. يقول بلينكن “نتحدث كثيرًا اليوم عن الهيكلة الإقليمية. وهناك فرصة عميقة للهيكلة الإقليمية في الشرق الأوسط، في الشرق الأوسط الكبير، لم تتح لنا من قبل، التحدي هو تحقيقه”.
الشراكة مع دول المنطقة
في إشارة الى المقترحات الذي ناقشه الوزير بلينكن ورئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو خلال زيارته الاخيرة لاسرائيل، ومحورها تطبيع العلاقة بين العربية السعودية واسرائيل، مقابل وقف العدوان على الشعب الفلسطيني، وتعهد اسرائيل بالعودة لمسار سياسي معلوم التوقيت يفضي الى دولة فلسطينية مستقلة الى جانب اسرائيل – رفض نتنياهو المقترح، يقول الوزير بلينكن “يمكننا رؤية شيئاً حقيقياً. وهي معادلة مختلفة، تجيب على الاحتياجات العميقة لكل شخص تقريبًا في المنطقة، بدءًا من إسرائيل وسؤالها القديم عن الأمن الحقيقي”. ويتابع، “لدينا الآن شيء لم يكن من قبل، فالبلدان العربية والإسلامية – حتى من خارج المنطقة، مستعدة لإقامة علاقات مع إسرائيل من حيث اندماجها، تطبيع العلاقات… وتقديم الالتزامات والضمانات اللازمة، حتى لا تكون إسرائيل مندمجة فحسب، بل تشعر بالأمان”. لكنه يكرر موقف الادارة الامريكية الجديد والذي يتسق ومطالب نتنياهو المتمثل في سلطة فلسطينية يتم اصلاحها، يقول بلينكن، “ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تكون السلطة الفلسطينية الأقوى التي تم إصلاحها والتي يمكنها أن تحقق نتائج أكثر فعالية لشعبها جزءا من المعادلة”. وأن الفرصة موجودة ويتطلب من كافة الاطراف اتخاذ القرارات الصعبة بمن فيهم اسرائيل.
نتنياهو واسرائيل
من وجهة نظر زعيم الدبلوماسية الامريكية فإن فرصة إعادة الهيكلة الاقليمية في المنطقة قائمة، وان هناك نقطة انعطاف جيواستراتيجية في الشرق الاوسط يمكن اغتنامها، ويرى ان وجود نتنياهو من عدمه على رأس الحكومة الاسرائيلية هو مسألة داخلية خاصة بالجمهور الاسرائيلي باعتبارها قضية عميقة، وان واشنطن لن تسعى للتدخل بها. يقول بلينكن “هذه قرارات (من يكون رئيس الوزراء) يجب على الإسرائيليين اتخاذها… فهل يمكنها اغتنام الفرصة التي نعتقد أنها موجودة”؟. ويعود ليذكرنا من جديد ان قضية ضمان امن اسرائيل هي اولوية على سلم الاهتمامات الامريكية، “في هذه الهيكلة الاقليمية… يجب أن تكون هناك طريقة تجيب على مخاوف اسرائيل العميقة وأسئلتها… التعايش مع الأمن. ولن تقبل أي دولة تكرار 7 أكتوبر”. يقول الوزير.
التحديات
في سياق اجابته على التحديات الاربعة التي تواجه حليفتهم اسرائيل، والتي لخصها فريدمان في،
التحدي الاول: منذ 7 من أكتوبر، خسرت إسرائيل الرواية في هذه الحرب، وانتهى الأمر بها في المحكمة العالمية.
التحدي الثاني: غياب رؤيا لليوم التالي للحرب.
التحدي الثالث: تهديدات الحوثيين وحزب الله.
التحدي الرابع: غياب دولة فلسطينية والذي يعتبر وجودها محور حل جميع هذه التحديات.
سارع الحليف الامريكي الموثوق الى عكس التحدي الرابع، للهروب من استحقاق حل الدولتين. مع اقراره بحق الشعب الفلسطيني ان يكون لهم سلطة قادرة على تحقيق اماله وتطلعاته ولكن، تحت سقف الشروط الاسرائيلية. يقول بلينكن “ما نتحدث عنه شيئين… نتحدث عن حكم وهيكل حكم يزيد من قدرة السلطة على تحقيق ما يريده الشعب الفلسطيني ويحتاجه بالفعل. ولكن يتابع “يجب أيضًا أن تكون قادرة على العمل فيما قد نسميه بيئة متساهلة a permissive environment- بعبارة أخرى، بدعم من إسرائيل، وليس بمعارضتها النشطة – لأنه حتى السلطة الأكثر فاعلية ستواجه الكثير من المتاعب إذا حصلت على معارضة نشطة من أي حكومة إسرائيلية”. وهنا تظهر المعايير المزدوجة في المواقف المنحازة والسياسات المتلوية التي تمارسها واشنطن في اعلى مستوياتها، بينما تُقـــر بحق الاسرائيليين في اختيار الحكومة التي يريدونها حتى لو كانت متطرفة وساعية للحرب، فإنه ليس امام الفلسطينيين وليس من حقهم اختيار غير حكومة واحدة: هي تلك التي لا تواجه اعتراض من قبل اسرائيل.
مبررات الفشل
ويتابع الوزير في سرده المختل لتبرير انحياز بلاده لاسرائيل وتحميل الشعب الفلسطيني والعربي وقياداتهم مسؤولية ما يجري الان في منطقة الشرق الاوسط، باعتبارهم غير جاهزين لتغيير افكارهم ومعتقداتهم تجاه اسرائيل، وانهم لم يستفيدو من الفرص التي قدمتها لهم واشنطن، ويتغافل ان الاصل في ما يجري هو استمرار الاحتلال لاراضي دولة فلسطين. يقول الوزير “عندما اقتربنا في المرات السابقة من حل القضية الفلسطينية، والحصول على دولة فلسطينية، أعتقد أن الرأي آنذاك – كامب ديفيد، أماكن أخرى – كان أن القادة العرب، القادة الفلسطينيين، لم يفعلوا ما يكفي لإعداد شعبهم لهذا التغيير العميق”. ثم ينتقل الى مسار آخر يبرر فيه تواجد بلاده في الشرق الاوسط بدعوى عدم إنشاء فراغ، لان من شأن ذلك ان يكون هناك من يقوض مصالح بلاده وقيمها!!، او ان يكون سيئاً بما فيه الكفاية للقيام بالاشياء السيئة، معتقدا بذلك ان بلاده دولة لاغنى للعالم عنها وفق ما تروج إدارة رئيسه بايدن. يقول بلينكن ” في مناطق مثل الشرق الأوسط، حيث نواجه هذا التحدي العميق والمؤلم من نواح كثيرة في الوقت الحالي،…أسمع من كل دولة تقريبًا أنهم يريدون الولايات المتحدة، يريدوننا حاضرين، يريدوننا على الطاولة، يريدوننا أن نقود”. ويتابع “من وجهة نظرنا. نحن نعلم أنه إذا لم نكن منخرطين، إذا لم نكن نقود، فإن أحد شيئين: إما شخص آخر … هذا يعني على الأرجح أن هذا سيحدث بطريقة قد لا تعكس مصالحنا وقيمنا الخاصة؛ أو ربما الأسوأ من ذلك، لا أحد. وبعد ذلك لديك فراغ، وكلانا يعرف أن الفراغات تميل إلى ملئها بالأشياء السيئة”.
الحوثيون وايران
يذكر فريدمان ان الحوثيين وضعوا واشنطن في وضع حرج جدا، من ناحية: اذا لم تقم الولايات المتحدة بالرد على هجمات الحوثيين فإن من شأن ذلك ان يحدث خلل كبير في سلاسل التوريد، الامر الذي سيدفع مؤشرات الغلاء والتضخم في العالم بما فيها الولايات المتحدة الى مسارات اعلى. بالمقابل، اذا قامت واشنطن بالرد على هجمات الحوثيين عسكرياً، فإن من شأن ذلك الدفع لانخراط امريكي في حرب جديدة مع الحوثيين قد تمتد الى مناطق اخرى، الامر الذي لا يفضله الرئيس بايدن وهو على اعتاب حملته الانتخابية. والمهم في ذلك وفق فريدمان، سواء اقدمت واشنطن على الخيار الثاني او التزمت فقط بإحباط هجمات الحوثي، فإن كلا الخيارين اصبح مادة دسمة للمرشح ترامب الذي يدعي انه لو كان على المقود لما كان لهذه الامور ان تحدث.
يقول زعيم الدبلوماسية الامريكي، “إذا تمكنا من تغيير الاتجاه الأكبر لمنطقة مثل الشرق الأوسط، فسيتم تقليل الكثير من هذه المشاكل الأخرى إلى الحد الأدنى إذا لم يتم القضاء عليها تمامًا. قد تختفي الأعذار والمبررات التي لدى العديد من مثيري الشغب لإثارة المشاكل”. ويعود لتحميل سياسة ترامب الفاشلة مسؤولية هذا الوضع الخطير في الشرق الاوسط، يقول ” فيما يتعلق بإيران… أعتقد أنه كان من الخطأ الكبير تمزيق الاتفاقية النووية. كان لدينا برنامج إيران النووي في الصندوق. منذ أن تم تمزيق الاتفاقية، هربت من هذا الصندوق، ونحن الآن في مكان لا نريد أن نكون فيه لأننا لا نملك الاتفاقية”.
ويجادل زعيم الدبلوماسية انه من الضروري ان تكون واشنطن متواجده في قضايا العالم بما فيها الشرق الاوسط، للقيادة والشراكة ودفع الكرة نحو الامام لاهداف التنمية وتحسين الاقتصاد وتعميم خير الذكاء الاصطناعي، يقول “لا يمكننا أن نفعل ذلك بمفردنا. يجب أن تكون لدينا شراكات، لكن يجب إعادة تخيل تحالفاتنا وشراكاتنا التقليدية، وبناء تحالفات جديدة، مناسبة لأغراض محددة، تجمع بين مجموعات من البلدان والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية والجهات الفاعلة الأخرى – وجميعهم لديهم مصلحة وربما بعض القدرة الخاصة لحل المشكلة. أحب أن أشير إليها على أنها هندسة متغيرة، وهذا ما كنا نفعله. لقد قمنا بتجميع هذه القطع المختلفة معًا”.
ويتابع “أعتقد أنه عندما نخرج من هذه اللحظة – خمس سنوات، عشر سنوات – سيكون الكثير من تلك الهندسة المتغيرة أكثر وضوحًا… وهذا ما يحفزني. لذلك أنا متحمس لأنني أراه حقًا وأشعر به. وعندما يتعلق الأمر بالأشياء الصعبة، أعتقد أن تشرشل قال “عندما تمر بالجحيم، استمر”.
المقابلة كاملة على موقع وزارة الخارجية الامريكية : اضغط هنا