كنا قد نشرنا منذ ايام الجزء الاول ( واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022 (1) ) من هذا الملف المهم بشأن واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم وتكلّمنا بشكلٍ موجز وسريع عن تداعيات الأزمة الإقتصادية-المالية-النقدية-المعيشية التي يمرّ بها لبنان منذ حوالي ٣ سنوات او اكثر إضافة الى الآثار المدمرة التي تسببّت بها جائحة كورونا واللتان تركتا آثارًا خطيرة على القطاع الطبي والإستشفائي والدوائي وعلى كل المستويات والجبهات، مما سيؤدّي لاحقًا حتمًا الى تداعيات صحية مهولة ستظهر نتائجها على كل شرائح المجتمع اللبناني وعلى المدى القصير (اي حاليًا لأن المرضى لا يذهبون الى المستشفيات سوى في الحالات الطارئة جدًا او الحرجة وبعد ان تكون حالة مرضهم قد وصلت الى مراحل متقدّمة جدًا او مستعصية بسبب عدم قدرتهم على دفع كلفة الفاتورة الباهظة التي اصبحت فقط حكرًا على بعض الأغنياء فقط؟! ) والمتوسط والبعيد بحيث نتوقّع ان تكون اكثر من كارثية وهذا مؤكّد ايضًا لأن الكثير من المرضى اضطروا الى إيقاف أدويتهم بسبب انقطاعها من الأسواق او ارتفاع اسعارها بشكل جنوني أو خيالي وإلى عدم إجراء أية فحوصات روتينية أو إجراءات وقائية لأن هموهم اصبحت في مكان آخر مختلف تمامًا، وهو تأمين لقمة العيش ورغيف الخبز وكلفة اشتراك الكهرباء وشراء صفيحة المازوت او البنزين أو أقساط المدرسة والجامعة قريبًا بالدولار “الفريش” وما الى ذلك!؟ واخيرًا لأنهم يعيشون في بيئة غير مُستقرّة على كل الصعد. ولذلك فهم تحت الضغوط النفسية، العاطفية والاجتماعية فائقة الخطورة وفي حالة ترقّب وتوتر وقلق واكتئاب دائم ولا يعرفون أي شيء عن المصير السياسي والاقتصادي والنقدي لوطنهم ولا عن مستقبلهم المهني والاجتماعي خاصة في ظل غياب كامل للحلول وانسداد الأفق على كل المستويات؟!
وكنا قد أشرنا في عشرات المقالات السابقة الى ان طبّ القلب والجراحات القلبية والشريانية قد تقدّمت وتطوّرت بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة في لبنان وفي مختلف الدول الغنية والمتقدمة خاصة في مجال استراتيجيات أخذ القرار الجراحي، والخبرات والتقنيات الجراحية المتنوعة، وفي مجال المتابعة الجانبية قدر الإمكان والى الحصول على أفضل “نوعية حياة للمريض” على المدى المتوسط والبعيد. وأشرنا أيضًا إلى أنّ أطباء وجراحي القلب طوّروا بشكلٍ متوازٍ الطرق الغازية أو التدخلية (Interventional or Invasive Theray) لعلاج امراض القلب والشرايين والتي سنتناولها تفصيليًا في هذا البحث. وهي التي أصبحت منذ أكثر من 20 سنة تأخذ حيّزًا يزداد ويتوسّع بشكلٍ كبير في مجال علاج هذه الأمراض. وهي آخذة بالتمدّد أكثر وأكثر في هذه السنوات الأخيرة كما سنرى لاحقًا بسبب النتائج الرائعة التي حققتها هكذه تقنيات والتي سمحت لها بأن تكون البديل الآمن والموثوق والأسرع لعلاج أحد أهم امراض القلب وهو مرض “انسداد الصمام الأبهر للقلب” وغيره من الأمراض القلبية ( خاصة بعض التشوهات الخلقية للقلب) كما سنتحدّث عن ذلك تفصيليًا لاحقًا. وهي لذلك تقنيّات آخذة بالتوسّع ايضًا تدريجيًا منذ عدة سنوات وأخذت تقضم رويدًا رويدًا المكانة التي كانت تحتلها “الجراحة الكلاسيكية” لهذا الصمام وغيره من الصمامات والأمراض القلبية عند عدد كبير من المرضى. كذلك حاول الكثير من جراحي القلب تطوير تقنيات لا تستعمل المضخة الإصطناعية القلبية-الرئوية خلال العمل الجراحي اي اللجوء الى إجراء العمل الجراحي دون إيقاف القلب (Beating heart surgery or Off-pump surgery) وذلك لتقصير فترة العمل الجراحي وتقليل الضرر الذي قد يحصل على عضلة القلب او المخاطر الناتجة عن تحريك وإلتقاط وثقب الشريان الأبهر خلال العمل الجراحي. لكن هذه التقنيات بقيت محدودة الإستعمال لأسباب سوف نشرحها لاحقًا وهي تُستعمل فقط في 6 % من الحالات في فرنسا مثلًا حاليًا.
في المقابل فقد سعى جراجو القلب ايضًا خلال السنوات العشرين الأخيرة الى تطوير تقنيات جراحية أقل غزوًا أو تغلغلًا في الجسم ( Minimally invasive heart surgery) من اجل إجراء تسريع عملية خروج المريض من المستشفى وعدم إحداث جرح كبير في القفص الصدري أثناء الجراحة وبالتالي تسهيل وتسريع عملية إلتئام الجرح وتقصير فترة النقاهة والعودة السريعة الى العمل، أو حتى لأسباب”تجميلية” لكي لا يكون الجرح كبيرًا في الصدر او لإخفائه تحت الثدي او في الناحية الجانبية او الخلفية للقفص الصدري. أخيرًا عمدوا الى تطوير “الجراحة الروبوتية” اي تلك التي تعتمد على إستعمال “الرجل الآلي وتقنيات الذكاء الإصطناعي” (Robotic surgery) من اجل إجراء بعض العمليات الدقيقة او الخطيرة او لتخفيف دور العنصر البشري في هكذا جراحات.
كل هذا التطوّر الهائل يسمح اليوم في الكثير من الدول المتقدّمة بتوسيع نطاق العمليات والجراحات القلبية لكي تشمل مرضى أكثر يعانون من حالات اكثر خطورة او تقدّمًا او عند المتقدّمين جدًا بالسنّ أو عند المرضى الذين يعانون من أمراض أخرى متعددة مثل المشاكل الكلوية او الرئوية المُزمنة والمتقدمة والتي لم تكن تسمح بعلاجهم في الماضي.
2- أهم أنواع الجراحات الحالية:
هناك عدة أنواع من الجراحات التي سوف نتكلم عنها بشكل مختصر:
A- جراحات الصمامات القلبية: وهي قد تكون على نوعين:
1- “الجراحات الترميمية أو المُحافظة او التصليحية للصمام” (Conservative or reparative surgery) وهي تطورت كثيرًا بفضل الجراح الفرنسي الشهير ( Alain Carpentier) الذي كان احد اهم روّاد هذه الجراحة، خاصة فيما يتعلق بجراحة “الصمام التاجي للقلب”. وهي جراحات تهدف لترميم الصمام التاجي وعدم استبداله كما يشير اسمها عن طريق تقطيع او تقطيب بعض مكوَنات الصمام او علاج اماكن الخلل في وظيفته بطريقة تُحافظ على طريقة عمله الفيزيولوجية دون إستبداله لأن ذلك اطهر ان المرضى الذين يخضعون لهكذا عمليات يعيشون لفترات أطول من المرضى الذين نستبدل الصمام عندهم مع نوعية حياة افضل. وقد كانت “عمليات توسيع انسداد” هذا الصمام جراحيًا من أولى الجراحات التي أجريت في القرن الماضي عندما بدأ تطوير جراحة القلب.
ولكن تطوير تقنيات التمييل سمح للطرق التدخلية او الغازية ( Interventional therapy) بأخذ مكان كبير في علاج هذه الإنسدادات عبر إيصال بالون صغير إلى منطقة إنسداد الصمام وتوسيعه عبر نفخ البالون من الخارج دون الحاجة إلى إجراء عمل جراحي.
وهذه التقنيات لها دور كبير في علاج المرضى الذين يعانون من إنسداد الصمام التاجي للقلب في العديد من الدول النامية مثل الهند وباكستان ومصر وبعض دول شمال افريقيا واميركا اللاتينية وغيرها. حيث لايزال هناك إنتشار كبير لمشاكل الصمامات التاجية الناتجة عن الحمى الرثوية أو الروماتيزم. أما في حالات تهريب أو توسيع الصمام التاجي (Mitral regurgitation) فهناك حاليًا وسائل ترميمية كثيرة للعلاج مثل وضع حلقة في مكان التوسيع أو إصلاح أو إستئصال الأنسجة الزائدة أو المتقطعة بحيث أن أكثر من 50 إلى %90 من مشاكل الصمام التاجي الجراحية من المُمكن” علاجها بواسطة هذه العمليات الترميمية دون الحاجة إلى تغيير كامل الصمام. وهذا ما يسمح للمريض بأن لا يحتاج لصمام إصطناعي وبالتالي يوفر عليه مخاطر إستعمال الأدوية المضادة للتجلط التي يجب تناولها مدى العمر في حال زراعة صمام إصطناعي خاصة إذا كان هذا الأخير معدنيًا.
B- جراحة تغيير الصمامات ( Valves replacement):
وبإختصارٍ شديد نشير إلى أنه يوجد هناك حلين:
1- الأول يتمثّل بأخذ صمام طبيعي مأخوذ من جثة أحد الأشخاص المتوفين ( Homograft). وهنا يجب أن نشير بسرعة إلى أن هذه الصمامات نادرة جدًا بسبب صعوبة تخزين هذه الصمامات والصعوبات الأخرى المتعلقة بإستخراجها من الجثث.
وهذا مردّه الى عوائق وقوانين معقّدة ومختلفة في معظم الدول وأمور أخرى لها علاقة بالأمور الدينية والأخلاقية والطقوس والمعتقدات عند مختلف الشعوب التي قد ترفض ذلك في الكثير من الدول.
أما الصمامات الإصطناعية الأخرى فهي كما نعلم على نوعين “معدني” و”بيولوجي” ولكل منها حسناته وسيئاته الخاصة به.
أخيرًا نشير إلى إمكانية أخذ الصمام الرئوي عند المريض ذاته وزرعه مكان الصمام الأبهر( Allograft) في بعض الحالات التي يتعرّض فيها هذا الأخير لأضرار كبيرة ناتجة عن إلتهابات خطيرة قد تصيبه كما في حالة إلتهابات البطانة الداخلية للقلب أو ذات الشفاف المعدية ( Infective endocarditis). وهذا ما نقوم به خاصة عند الأطفال وتسمى هذه الجراحة بأسم جراحة ROSS وهو أسم الجراح الذي قام بها أول مرة.
C- جراحة الشرايين التاجية للقلب (Coronary Artery Baypass Graft surgery CABG):
وهي جراحات نلجأ إليها في حال كانت الإصابات الشريانية منتشرة كثيرًا ومتعددة أو متكلسة جدًا بحيث لايسمح ذلك بالعلاج بواسطة التقنيات التدخّلية اي بواسطة عمليات التوسيع بالبالون والرسور. ويقوم مبدأ هذه الجراحة على مد جسر ( Bypass or Graft) لإيصال الدمّ إلى المناطق المحرومة من وصول الدم. وخلال هذه الجراحة من المُمكن إستعمال أوردة الساقين التي يستعملها الجراح لمدَ جسر من الشريان الأبهر إلى الشريان التاجي في المنطقة الموجودة تحت الإنسداد. وهذه الأوردة تستعمل لمد جسر إلى أحد الشرايين الفرعية من الشريان الأيسر للقلب ( Marginal or Diagonal aerteries) أو إلى الشريان الأيمن للقلب. وفي الحالات الأخرى وعي الأهم والأخطر يتمّ إستعمال شريان الصدر أو الثدي الداخلي الأيسر أو الأيمن ( Left or Right internal mammary or thoracic artery) وهو اضمن ومدّة فعاليته وعمله تدوم لفترة اطول من الاوردة. وقد تمّ تطوير إستعماله لاحقًا على الجسور الوريدية. وهنا يتمّ تشريج هذا الشريان في داخل الصدر وزرعه على الشرايين التاجية للقلب تحت المناطق المسدودة. وفي غالب الأحيان يتمّ زرعه على الشريان الأمامي النازل (Left Anterior Descending artery).
وقد يتمّ أيضًا في بعض الحالات إستعمال الشريان الصدري أو الداخلي الأيمن الذي غالبًا ما يتمّ زرعه على الشريان الخلفي أو الشريان المنعكس للقلب (Circunflex artery) أو على الشريان الأيمن للقلب ( Right coronary artery). وفي بعض الحالات الأخرى يتم إستعمال الشريان الكعبري ( Radial artery) والذي يتمّ إستخراجه من المعصم ولكن عملية إستهمال لم تتطور بشكل كبير لأنه يتشنّج بسهولة مما قد يعرّضه للإنسداد بشكلٍ كبير بعد زرعه على الشرايين التاجية للفلب.
كذلك عمد الجرّاحون الى استعمال الشريان المعدي – الثربي (Gastro-Epiploic artery). وهو أحد الشرايين التي توجد في البطن وتُغذّي المعدة. لكن إستعمالات هذين الشريانين الأخيرين نادرة ولهما مضاعفات وسلبيات كثيرة. ولذلك من المعروف حاليًا أن الجراحة الأفضل للشرايين التاجية للقلب تستعمل الشريانين الداخليين للثدي (اي الأيسر والأيمن) وعدّة أوردة من الساق بحسب حاجة المريض.
ومن حسنات إستعمال الأوردة هي كون هذه الجراحات بسيطة نسبيًا ومن المُمكن إستعمال الأوردة لزرعها على كل الشرايين التاجية للقلب تقريبًا. بينما من أهم سيئاتها هي إمكانية معاودة مرضها وإنسدادها بسرعة، خاصة بعد مرور عشر سنوات تقريبًا على زراعتها وأنه لايمكن أن نستعملها إذا لم تكن متوفرة مثل عند المرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية بسبب مرض الڤاريس أو عند الذين يعانون من مرض أوردة مُتقدّم (ڤاريس مُتقدّم مع أو بدون وجود تقرّحات في الساق). أما الشرايين الداخلية للثدي فهي تدوم ااكثر كما ذكرتا بحيث أنها تبقى فعّالة لمدة أكثر بنسب قد تصل إلى %90 على مدى 10 سنوات.
وأما سلبياتها فكون عددها أثنين فقط في الجسم وكون طولها قصير نسبيًا بحيث أنه لا يُمكن زرعها على كل الشرايين التاجية للقلب.
وأخيرًا قد لا نستطيع إستعمالها في حال كان المريض يعاني من تصلّب أو إنسداد في الشريان الما تحت ترقوي ( Sub clavian artery).
في الجزء المقبل من هذا الملف ندخل تفصيليًا اكثر في انواع هذه الجراحات ونسعى لشرح واقع الحال لكل صنف منها مع الإيجابيات والسلبيات. وسوف نسهى ايضًا لشرح واقع الحال في لبنان والعالم على ضوء ما حدث بعد جائحة كورونا والأزمة الإفتصادية والمعيشية الخانقة في وطننا.