لا ينفك معالي وزير التربية و التعليم العالي الدكتور طارق المجذوب منذ العام الدراسي الماضي 2019/2020 و منذ إكتشاف الحالة الأولى لجائحة الكورونا في لبنان في نهاية شباط 2020 عن التذكير بضرورة إنقاذ العام الدراسي و إجراء الإمتحانات الرسمية. و هو اليوم في العام الدراسي 2020/2021 يعيد مشكوراً تكرار مناشداته و مواقفه بضرورة إنقاذ هذا العام الدراسي بعد بداية تميزت بإعتماد التعليم المدمج في المدارس مع قسمة كل صف إلى مجموعتين و التذكير الدائم للهيئتين التعليمية و الإدارية و الطلاب في المدارس الرسمية و الخاصة منذ إنطلاق العام الدراسي بضرورة و وجوب إلتزام أقصى معايير الوقاية من تباعد إجتماعي و كمامات و نظافة شخصية و غيرها.
إلا أنَّه و بالرغم من إعتماد نظام المراحل في فتح الصفوف في المدارس و التدرج وصولاً إلى فتح صفوف الحلقة الأولى في المرحلة الأخيرة، كانت تجربة إعتماد التعليم المدمج في المدارس الرسمية و الخاصة لمدة شهرين تقريباً، قبل التوقف في نهاية شهر كانون الأول بسبب عطلتي الميلاد و رأس السنة، كافية لتثبت صعوبة تطبيق معايير الوقاية على المعلمين و الطلاب في مختلف الحلقات الدراسية و خصوصاً الطلاب الأصغر سناً في صفوف التعليم الأساسي (الحلقات الأولى و الثانية و الثالثة).
و خلال فترة الشهرين هذه، سجَّلت المدارس الرسمية و الخاصة العديد من الإصابات بكوفيد 19 في كوادرها التعليمية و بين الطلاب بالرغم من إعتماد نظام المجموعات حيث إستقبل كل صف نصف قدرته الإستيعابية و بالرغم من فرض التباعد الإجتماعي بين الطلاب أنفسهم من جهة و بين الطلاب و المعلمين من جهة أخرى. و بالرغم من فرض الإدارات إرتداء الكمامات على المعلمين (و هو أمر صعب جدا خصوصاً بسبب تكلم المعلمين لفترات طويلة خلال الحصة مما يجعل الكمامات رطبة و بالتالي تصبح وسيلة لاقطة و جاذبة للفيروس)، و بالرغم من جميع وسائل التعقيم و الوقاية، ظلَّت تظهر الإصابات في صفوف المعلمين و الطلاب و أغلقت الكثير من الصفوف و أحياناً مدارس بأكملها في بعض المناطق بسبب إزدياد أعداد الإصابات بالوباء الفتَّاك.
و بعد أن وقعت الواقعة، و إنفجرت أعداد الإصابات بشكلٍ كبير بسبب حالات الفوضى و الإستهتار التي حصلت خلال فترة عيدي الميلاد و رأس السنة في المطاعم و الفنادق و في البيوت، و بعد أن وصلت أعداد الإصابات إلى 6000 يومياً و وصلت أعداد الوفيات إلى حوالي 100 في اليوم، تقرر إغلاق البلد و إعادة نظام التعبئة العامة لثماني أسابيع. و كنتيجة لذلك، أُعيد إعتماد نظام التعليم عن بعد في المدارس الرسمية و الخاصة منذ بداية شهر كانون الثاني مروراً بشهر شباط و وصولاً إلى شهر آذار بالرغم من إعلان عدد كبير من المتعاقدين إضراب مفتوح منذ بداية كانون الثاني لتحقيق مطالبهم و أهمها إحتساب ساعات عقودهم بشكل كامل.
و كانت وزارة التربية تذكر خلال هذه الفترة بضرورة العودة إلى المدارس و إعتماد التعليم المدمج مجدداً بالرغم من تحذير الخبراء أمثال الدكتور فراس أبيض – مدير مستشفى رفيق الحريري و الدكتور عاصم عراجي – رئيس لجنة الصحة النيابية و الدكتور عبد الرحمن البزري – الخبير بالأمراض الوبائية و الجرثومية و رئيس اللجنة الوطنية لإدارة لقاحات كورونا، و جميعهم أعضاء في لجنة كورونا، من خطورة الوضع الصحي و الوبائي في البلد و من خطورة إعادة فتح البلد قبل إنخفاض أعداد الإصابات، و ذلك بسبب عدم توفر أسرة شاغرة في المستشفيات و بسبب إرهاق الكادر الصحي و الطبي و التمريضي. في هذه الأثناء، كانت لجنة كورونا تنتظر وصول أول دفعة من اللقاحات المضادة لكورونا نهاية شهر شباط من أجل البدء بتلقيح الأطقم الطبية و التمريضية في لبنان في المرحلة الأولى بلقاح بفايزر Pfizer على أن يتبعها في المرحلة الثانية تلقيح المسنين و في المرحلة الثالثة فئات معينة في المجتمع و من بينهم المعلمين.
الملفت أنَّه بينما كانت المدارس مفتوحة و تعتمد التعليم المدمج و كانت تتزايد أعداد الإصابات بالآلاف يومياً، كان بعض أعضاء لجنة كورونا و بعض الموظفين في الوزارة يتحججون بأنَّه لماذا إغلاق المدارس إذا كان كل البلد فاتح و جميع القطاعات تعمل …؟!! إلى أن وقعت الواقعة و سجَّلنا قرابة 6000 إصابة في اليوم الواحد.
أما اليوم، و على وقع تسجيل أكثر من 3000 إصابة بكورونا و مع تسجيل أكثر من 50 وفاة بكورونا يومياً، و مع الإعلان أنَّ لبنان و الأردن يحتلان المرتبتين الأولى و الثانية على التوالي عربياً من حيث الإصابات بكورونا نسبة إلى عدد السكان، تعود النغمة مجدداً إلى فتح المدارس و العودة إلى التعليم المدمج و إنقاذ العام الدراسي و إجراء الإمتحانات الرسمية و غيرها من الشعارات المهمة و الضرورية في ظروف صحية طبيعية و لكن ليس في هكذا ظروف صحية.
الكثير من اللبنانيين للأسف لا زالوا لا يدركون أننا نعيش في ظل جائحة عالمية و لا زالوا يعيشون حالة إنكار رهيبة. فمع تسجيل 120 مليون إصابة و قرابة 2.800.000 وفاة عالمياً بسبب جائحة كورونا، و مع بلوغ مجموع أعداد الوفيات في بلد صغير مثل لبنان 5000 وفاة تقريباً من أصل ست ملايين نسمة و العداد لا زال يحصد 50 وفاة بشكلٍ يومي و بين 2000 و 3000 إصابة و لا زالت المدارس مغلقة، فكيف إذا تمَّ فتحها و عاد قرابة مليون طالب إلى مقاعدهم و 150 ألف معلم و معلمة إلى صفوفهم؟؟!!
في ظل هذه الظروف، رفعت الروابط و على رأسها رابطة التعليم الثانوي و نقابة المعلمين الصوت و طالبت بتأمين اللقاحات للمعلمين في القطاعين الرسمي و الخاص قبل العودة إلى التعليم المدمج، و لاقاها وزير التربية برفع شعار جميل “العودة الآمنة” قبل أن يعلن التوقف عن التعليم عن بعد من 5 إلى 14 آذار في المدارس الرسمية و الخاصة و حدَّد تاريخاً لـ”العودة الآمنة” إلى المدارس لصفوف الشهادات في 22 آذار الحالي. كما قال وزير التربية: “نحن نطالب أن نكون كالعديد من دول العالم، فالدول ذهبت الى تلقيح العاملين في القطاع التعليمي بعد إنتهاء تلقيح الطواقم الطبية والتمريضية وفي الدول الاخرى التربية هي أساس لقيام البلد ويجب ان نعيد هذا الشعار الى الساحة اللبنانية”.
في هذا الإطار، يمكن لأي لبناني لديه أقارب في بلدان الخارج التواصل معهم لمعرفة حال التربية في ظل جائحة الكورونا في البلدان التي يقيمون فيها. فعربياً، و في المملكة العربية السعودية تحديداً، لا زال جميع الطلاب يتابعون دروسهم عن بعد في بيتهم تماماً مثل العام الماضي بالرغم من تلقيح أكثر من مليون و نصف المليون مواطن سعودي، و الأمر نفسه ينسحب في غيرها من دول الخليج العربي. أما في أستراليا، و من خلال التواصل مع الأصدقاء هناك، عرفت أنه ذهب الطلاب إلى المدارس فقط في المدن التي سجلت صفر إصابات. أما في نيويورك فعلمت أنه يتِم إستخدام 30% من القدرة الإستيعابية للصفوف الدارسية على وقع تسجيل فرابة 3000 وفاة بكورونا يومياً. أما في بريطانيا، حيث بدأوا بإستخدام العديد من اللقاحات مثل أسترازينيكا AstraZeneca و جونسون أند جونسون و بفايزر و موديرنا… فلقد عادوا إلى المدارس في 10 آذار و بمعايير و ضوابط صارمة. بإختصار، يمكن القول أنَّه حتى في الدول التي بدأت فيها اللقاحات منذ شهرين لم يعيدوا فتح مدارسهم حتى تنخفض أعداد الإصابات و ذلك لكي تكون عودتهم فعلاً “عودة آمنة” و ليست خطوة في المجهول.
أما في لبنان، فلقد حصل إجتماع يوم الجمعة 12 آذار بين وزارة التربية و ممثلون عن المدارس الخاصة و الروابط و نقابة المعلمين مع رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب و توافقوا على البدء بتلقيح المعلمين بلقاح أسترازينيكا، الذي يصل إلى لبنان يوم الإثنين في 15 آذار، من أجل “العودة الآمنة” إلى المدارس في 22 آذار. الغريب هو أنَّه يوم الخميس 11 آذار، كانت الدانمارك قد أعلنت التوقف عن إستخدام لقاح أسترازينيكا “لتسببه بتجلطات في الدم”، في حين كانت ألمانيا تعلن دخولها في موجة ثالثة من كورونا وتسجّل إرتفاعاً حادّاً بالإصابات. و أعلنت مجموعة من الدول يوم الجمعة 12 آذار التوقف عن إستخدام لقاح أسترازينيكا من بينها: النرويج و أستونيا و النمسا و لاتفيا و ليتوانيا و اللوكسومبورغ إضافة إلى تايلاند. في المقابل، أعلنت شركة أسترازينيكا يوم السبت 13 آذار أنَّ لقاحها آمن و أنَّه لا داعي للضجة التي أثيرت حوله. و لكن أيرلندا أعلنت يوم الأحد وقف إستخدام لقاح أسترازينيكا كليا بسبب التجلطات التي يتسبب بها.
في الخلاصة، لا بد من التشديد على إجراء الإمتحانات الرسمية و لو في غير مواعيدها، و خصوصاً لطلاب المرحلة الثانوية و لكن في ظل ظروف صحية آمنة فعلاً لكل من المعلمين و الطلاب و أهاليهم و عدم الذهاب نحو خيار الإفادات كما في العام الماضي بينما أجرت غالبية الدول إمتحانات رسمية لطلابها مثل الأردن، لسبب بسيط و هو رفض الكثير من الدول للإفادات المعطاة للطلاب اللبنانيين من بينها دول الخليج. في المقابل، ينبغي الإعتراف أَّنَّه هناك صعوبة كبيرة في العودة إلى المدارس هذا العام قبل تلقيح جميع هيئات الإدارية و التعليمية في المدارس الرسمية و الخاصة البالغ عددهم قرابة 150 ألف، الأمر الذي لم يبدأ حتى اللحظة. و بالرغم من أنَّ وزير الصحة الدكتور حمد حسن كان قد أعلن عن وضع خطة مشتركة بين وزارتي الصحة و التربية للبدء بتلقيح الهيئتين الإدارية و التعليمية من خلال إعتماد 32 مركز خاص للتلقيح بلقاح أسترازينيكا، إلا أنَّه يجب لفت نظر المسؤولين إلى النقاط التالية:
1. أي عودة غير آمنة و مدروسة و منظمة إلى التعليم المدمج ستكون كارثية خصوصاً على صحة المعلمين و الطلاب و أهاليهم و ستدخلنا بموجة ثالثة من الوباء تماماً مثل ألمانيا.
2. ثبت علمياً بما لا يدع مجالاً للشك و خصوصاً بعد الكارثة التي حصلت بعد أعياد الميلاد و رأس السنة أنَّ السلالة البريطانية هي المنتشرة حاليا في لبنان، و بالتالي فإن سرعة الإنتشار ستكون كبيرة في حال فتح المدارس دون مراعاة جميع إجراءات الوقاية و على رأسها التهوية في جميع الصفوف و هو أمر صعب بسبب إستمرار حرارة طقس الشتاء المنخفضة و خصوصاً في المناطق الجبلية.
3. كيف يتم التوافق على إعتماد لقاح أسترازينيكا للمعلمين في لبنان في حين أوصت العديد من الدول التوقف عن إستخدامه بسبب تسببه بتجلطات في الدم؟!!!
4. لو فرضنا أنَّ الطاقة الإستيعابية لل32 مركز المعتمدة هي 1000 معلم و معلمة يومياً (و هو أمر غير واقعي) فبالتالي نحن بحاجة لما لا يقل عن أسبوع لتلقيح 150 ألف معلم و معلمة الجرعة الولى فقط من اللقاحو هي غير كافية لتحقيق المناعة اللازمة قبل العودة المفترضة إلى المدارس في 22 آذار.
5. غالبية المعلمين و المعلمات ترفض اللقاح من الأساس و هو حقهم.
6. تبين أنَّ قسم كبير من المعلمين و المعلمات الذين يقبلون بفكرة اللقاح ضد كورونا، يرفضون تلقي لقاح أسترازينيكا خصوصاً بعد معرفتهم بعوارضه الجانبية الخطيرة. و بالتالي هم يرفضون تحويلهم إلى فئران تجارب و تخييرهم بين خيارين أحلاهما مُر: إما العودة الغير آمنة دون لقاح أو تلقي لقاح الأسترازينيكا الذي ثبت أنَّه غير آمن…
7. يمكن تعويض التعليم و التربية و لا يمكن تعويض الحياة أو الصحة خصوصاً مع ثبوت أنَّ الكورونا تسببت بأعطاب دائمة للكثير من المصابين.
لذلك، لا بد من إعادة التفكير جدياً بموضوع اللقاحات و السماح للمعلمين بتقرير مصيرهم (مثل حق تقرير المصير المعروف للشعوب) بإختيار اللقاح الذي يرغبون بأخذه و إلا للأسف سنكون أمام خطة تلقيح فاشلة لأنَّها لا تلتزم أهم أسس تلقي اللقاح و هي “حرية الإختيار“. و بالتالي، ستواجه خطة “العودة الآمنة” بدءاً من 22 آذار مشكلة حقيقية تضع مصير العام الدراسي و الإمتحانات الرسمية على المحك.