سلسلة من المقالات التي سأعرضها تباعا، أتناولُ فيها آخر المعطيات العلمية بشأن جائحة كورونا ومستجدات تطوير لقاح مضاد لهذا الفيروس الفتّاك بشكلٍ آمن وفعّال دون التسرّع والمُجازفة بأرواح البشر.
كنت قد عرضت في الجزئين الأوّل والثاني من هذه المقالات لواقع جائحة كورونا الحالي وأشرت الى ان الأخبار المتفائلة التي ذكرتها وسائل الإعلام في الأيام الماضية بشأن النتائج الإيجابية للأبحاث التي تجرى لتطوير لقاح مُضاد لهذا الفيروس فتحت كوّة كبيرة في الجدار النفسي التشاؤمي والمُحبِط الذي كان لا يزال يضيّق يومياً بعد يوم مع إستمرار تفشّي هذا الفيروس وحصده لأرواح آلاف المرضى وتسبّبه في خسائر إقتصادية فادحة وإحداثه لتغييرات كبيرة في انماط حياة ملايين البشر في معظم دول العالم.
هذه المقالة سأخصصها لمحاولة الإضاءة على كيفية تفاعل جهاز المناعة في جسم الإنسان عند الأشخاص الذين تعرّضوا لفيروس كورونا للسعي من خلال دراسة هذه الشلّالات من ردّات الفعل الخليوية (Cellular) والخلطية(Humoral) على دخول جسم غريب لداخل الجسم، لفهم ما هي العقبات المُمكنة التي قد تواجه اللقاحات التي حققت حتى اليوم نتائج إيجابية واعدة او تلك المُرشّحة لتحقيق نجاحات مُماثلة بعد الإنتهاء من تجاربها في الأيام والأسابيع المقبلة. ذلك لأن التشريح العلمي الدقيق لمعطيات “علم المناعة” في هذا المجال، ستسمح لنا بفهم أهم العقبات المُحتملة التي قد تواجهها هذه اللقاحات لناحية إستمرارية المناعة الفعّالة من ناحية “كمية الأجسام المضادة ونوعيتها” و”تاريخ بدء إنحسارها في الدم” مع مرور الوقت وهذا ما قد يعطينا بالتالي فكرة دقيقة عن مدى فعالية اللقاح.
١- معطيات جديدة بشأن المناعة المُكتسبة بعد التعرّض إلى إلتهابات فيروس كورونا:
كشفت دراستان جديدتان “أميريكية” وأخرى “كندية” أن “الأجسام المضادة” المُوجّهة ضد “فيروس كورونا” تبقى في الجسم لمدة ثلاثة أشهر تقريباً بعد بداية ظهور الأعراض. نتائج هذه الدراسات نُشرت في ٨ تشرين الأول ٢٠٢٠ في المجلة العلمية (Science Immunology) الشهيرة.
وفي الواقع نحن نعرف وكما شرحنا في مقالات سابقة أن هذه الأجسام المُضادة لها دور كبير في الحماية وفي عمليات دفاع الجسم عند التعرّض إلى الإلتهابات بأيّة جراثيم خارجية كالفيروسات والبكتيريا، ووفق خبراء علم المناعة تلعب هذه الأجسام دوراً في كبح الفيروس ومنع إلتصاقه بخلايا الجسم، وبالتالي منع تكاثره وغزوه لخلايا الجسم، أي أن هذه الأجسام المُضادة لها دور كبير في القضاء الكامل على الجسم الغريب الذي يغزو أجسامنا. ومن هنا أهمية دراسة هذه التفاعلات بشكلٍ تفصيلي عند تطوير العلاجات او اللقاحات الفعّالة لأن متابعة هذه الأجسام في الجسم ستعطي فكرة جيدة لمتابعة تطوّر حالة المرض سلبياً او للشفاء والإنتهاء التدريجي او الكامل من اعراضه.
وكما ذكرنا فإن هذه “الأجسام المُضادة الكابحة” هي مُوجّهة ضد البروتينات الموجودة في الغلاف الخارجي الذي يُغطّي فيروس كورونا والتي تُعرف بالبروتين (S) نسبة إلى (Spike) لأن هذه البروتينات موجودة هنا بشكل “نتوءات او تاج” على سطح الفيروس. وهذا البروتين الذي يُدعى بالبروتين (S) يتجمّع بشكل “تريمير” أي بشكل هندسي مُكوّن من ثلاثة بروتينات بحيث أن كل ثلاثة بروتينات (S) تُشكّل واحدة هندسية تظهر بشكل النتوءات التي ذكرناها. وهي التي أعطت لهذا الفيروس إسمه الذي سمي به اي “الفيروس التاجي” نسبةً لهذه النتوءات التي نراها بشكل واضح بالمجهر الإلكتروني.
وتقوم “الأجسام المُضادة الكابحة” بالتعرّف على هذه البروتينات التي تدعى بالبروتينات (S) والتي فيها منطقة خاصة جداً لها دور كبير في عملية إلتصاق الفيروس بالخلايا وهي تدعى (RDB: Receptor Bainding Domain) وهي المنطقة الخاصة من هذا البروتين التي تتفاعل مع لاقطات موجودة على سطح خلايا الأنف والبلعوم والحنجرة وخلايا الشعب الهوائية والرئة وفي خلايا مختلفة أخرى في الجسم. هذه اللاقطات تُسمى
(Angiotensin Converting Enzym 2: ACE 2). بحيث تُشكّل هذه اللاقطات “بوابات دخول الفيروس” الى داخل الخلايا. ولكي يتمكّن الفيروس من الدخول يجب أن تتعرّف المنطقة التي تسمى (RBD) من البروتين (S) على هذه اللاقطات، بحيث أن هذه البروتينات (S )واجزائها التي تسمى (RBD) تُشكّل “المفاتيح” للأقفال الموجودة في اللاقطات المذكورة.
٢-الوسائل المناعية المُتاحة أمام الجسم للتفاعل مع الأجسام الغريبة:
هناك في الواقع طُرق عدّة يتفاعل من خلالها الجسم مع الأجسام الغريبة التي تغزوه، فمنها الطُرق التي تمر ّعبر “إفرازات الأجسام المضادة” والتي تُسمّى بـ “الوسائل الخلطية”، و هي مبنية على دور قسم من الكريات البيضاء البائية التي تسمّى(B-Lymphocytes) ومُشتقّاتها.
وهناك طريقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى في عمليات دفاع الجسم وهي طرق تمرّ عبر “أساليب خليوية” و عبر قسم من الكريات البيضاء التائية التي تسمّى الـ (T-Lymphocytes).
هذه العمليات الخليوية مُعقّدة جداً ولا يملك العلماء حتى اليوم معلومات كثيرة بشأن دورها في حصول عملية المناعة المكتسبة ضد فيروس كورونا. لكن بعض المُعطيات التي سنشير إليها في هذه المقالات تُظهر أن هذه الشلالات من ردّات الفعل الخليوية التي تلعب فيها دور كبير شريحتان من هذه الخلايا هي التي تُسمّى (Lymphocytes T CD4 و CD8) تلعب دوراً كبيراً في حفظ “الذاكرة المناعية” عند التعرّض لأي جسم غريب، بحيث أن الجسم يقوم بسرعة بعدّة ردّات فعل يفرز من خلالها مواد تهدف إلى تقويض فعالية الفيروس وكبحه وقتله.
٣- لماذا التركيز على أهمية دراسة توقيت حصول ردّات الفعل المناعية وتطوّرها مع مرور الوقت؟
إن دراسة ظهور “الأجسام المضادة” في الجسم أدّت إلى تطوير “عمليات تشخيص الإلتهابات” بفيروس كورونا بواسطة طُرق غير مُباشرة من خلال دراسات سعى من خلالها الخبراء إلى كشف كمّيات “الأجسام المناعية” (Immunoglobulins) الموجودة في داخل الدم لمعرفة عدد الأشخاص الذين تعرّضوا للفيروس والذين قد يكونوا قد أظهروا أعراض متنوّعة للمرض، أو الذين قد يكونوا لم يظهروا أية أعراض مرضية مُهمة.
لذلك فإن دراسة هذه الأجسام المضادة لها أهمية كبيرة في عملية تطوير اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، بحيث أن الخبراء في مراكز الأبحاث يلجؤون لدراسة كمية هذه الأجسام المناعية في الجسم وتطوّر إفرازاتها مع الوقت بعد حقن اللقاح، لمعرفة في أية مرحلة يُصبح اللقاح فعّال لمنع حصول الإلتهابات. ولذلك تأخذ دراسة هذه الأجسام المُضادة أهمية كبيرة في تطوير العلاجات التي نستعملها للحالات الخطيرة والحرجة جداً لإلتهابات كورونا، بحيث أن اختفاء هذه الأجسام المضادة بشكلٍ تدريجي سيُعطي مؤشرات عن الشفاء. ومن المعروف ايضاً أن العلميات الخلطية تمر عبر إفرازات المضادات المناعية ال (Immunoglobulins) من نوع A وM وG.
وفي الحالة الخاصة لفيروس كورونا إهتم الأطباء بشكلٍ كبير لفحص إفرازات هذه المواد في الغشاء الذي يغطي المنطقة الداخلية من الأنف والبلعوم والحنجرة لكشف ردّات فعل الخلايا المناعية في هذه المناطق التي تُشكّل خط الدفاع الأول في الحماية من تقدّم الفيروس. ولذلك فقد عكفوا إلى دراسة تواجد هذه الأجسام في “اللعاب”، في محاولة منهم لكشف الأجسام المضادة في داخله ووجدوا بشكلٍ غير متوقع بالكامل أن هناك تناسق كبير بين كميات الأجسام المُضادة الموجودة في اللعاب والكميات الموجودة في دم الإنسان.
وأظهرت دراسة كندية أجريت في جامعة تورونتو الكندية لمدة ١٦ أسبوع ( اي ١١٥يوم أو ٤ أشهر) أن هناك تناسق كبير بين كمية الأجسام المُضادة التي يفرزها الجسم في الدم وبين تلك التي تُوجد في اللعاب. وفي هذه الدراسة أخذ الأطباء ٤٣٩ مريض تمّ عندهم دراسة كميات الأجسام المُضادة في الدم و١٢٩ مريض تمّ عندهم دراسة الأجسام المُضادة في اللعاب. و أظهرت النتائج أن الأجسام المناعية من النوع (Immunoglobulins G) المُوجّهة ضد البروتين (S) بشكله الهندسي الذي تكلّمنا عنه سابقاً وتلك المُوجّهة ضد المنطقة التي تدعى (RBD) كانت تبدأ بالظهور بين ١٦ و ٣٠ يوم بعد بداية ظهور أعراض المرض. واكتشفوا ايضاً أن كمية هذه الأجسام المضادة بدأت بالإنخفاض ما بين اليوم ١٠٥ و ١١٥ من بداية ظهور الأعراض. كذلك ظهر أن الأجسام المناعية (Immunoglobulins) من النوعين M و A ، إختفت بشكلٍ سريع من الدم ومن اللعاب. وقد أشارت الدراسة المذكورة أن الكميات “العالية والكابحة” وصلت إلى ذروتها ما بين اليوم ال ٣١ واليوم ال ٤٥ بعد بداية ظهور الأعراض، ومن ثم بدأت بالإنحصار إلى إن وصلت إلى أدنى مستوى لها في اليوم ١٠٥. وأظهرت هذه الدراسة أن الأجسام المُضادة الموجّهة ضد البروتين (S) هو أكثر ثباتاً من الأجسام المُضادة المُوجّهة ضد (RBD).
في المحصّلة فإن هذه الدراسة أثبتت أن المناعة طويلة الأمد المُتمثّلة بوجود الأجسام المناعية من النوع (Immunoglobulins G) المُضادة لفيروس كورونا تبقى في الدم كما في اللعاب لفترة ٣ أشهر، ومن ثم تبدأ في الإنحصار. في المقابل أظهرت دراسات أخرى كانت قد نشرت سابقاً أن الأجسام المناعية من نوع M ومن نوع A المضادة للبروتين (S) ولمنطقة (RBD) هي “مُبكرة وخاطفة في الزمن” . ذلك لأن بعض الدراسات اظهرت أنه في اليوم ال ١٠٠ من بداية ظهور الأعراض، إن الأجسام المناعية من النوع M و A ضد البروتين (S) وضد (RBD) هي بكميات ضئيلة جداً او على حافّة القدرة على قياسها. بينما أن الأجسام المضادة من النوع G تبقى إلى ما بعد اليوم الستون. وبما أن جميع الخبراء يعرفون أن هذه ألأنواع الثلاثة من الأجسام المناعية من النوع G و A و M لها دور كبير في عملية المقاومة والمناعة ضد الجسم الغازي وهو فيروس كورونا في هذه الحالة، فمن المُهم أن ننتظر نتائج دراسات إضافية جديدة تُحدّد دور كل نوع من هذه الأجسام المناعية في عملية التخلّص من الفيروس. وقد وجد باحثون كنديّون أن تطوّر إفرازات المضادات المناعية من نوع G و M ضد البروتين (S )والمنطقة (RBD) هما متناسقان بشكلٍ كبير جداً في الدم وفي اللعاب.
ولذلك تعمل الكثير من المستشفيات على قياس كمية هذه المضادات في اللعاب بدل من أخذ عينات من الدم ، خاصة وان هذه العملية هي عملية أسهل واسرع عملياً وتأخذ وقت أقل وهي اقل إزعاجاً وإيلاماً.
وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى ان هناك فحوصات سريعة للبحث عن بعض مُكوّنات فيروس كورونا في “اللعاب” وهي وإن كانت اقل فعالية وحساسية في تشخيص الإلتهابات من فحص ال( PCR) الذي تقوم به معظم المستشفيات والمختبرات الطبية في معظم دول في العالم، إلّا ان فحص اللعاب قد يكون مُفيد جداً في بعض الحالات الخاصة. خاصة وانه سريع ويؤخذ مباشرة من اللعاب المُجمّع في الفم والبلعوم او القصبة الهوائية . وهو غير مُزعج ومؤلم مثل الفحص الذي يجري عن طريق قحط او حفّ الغشاء الداخلي للأنف بواسطة ريشة صغيرة. وهو لا يُعرّض ايضاً كثيراً الأطقم الطبية لمخاطر إنتقال العدوى مثل الفحص المُعتمد حالياً. ولذلك فإن الفحص عن طريق اللعاب قد يكون ذو فائدة كبيرة عند الأطفال او عند المُتقدّمين في السنّ الذين لا يحتملون الألم والإزعاج. وكذلك عند بعض المرضى الذين يُعانون من بعض المشاكل والأمراض النفسية والعقلية والذين لا يتعاونون كثيراً مع الأطقم الطبية.
في الخلاصة، يُمكننا القول ان طُرق وأساليب المناعة المُتاحة امام جسم الإنسان مُتعددة ومُعقدّة للغاية وانّ جزء كبير منها معروف بشكلٍ جيد ويمرّ عبر قسم من الكريات البيضاء هي “الخلايا البائية” التي تفرز الأجسام المناعية التي من المُمكن قياس كميّتها وتاريخ بدء إفرازها وإندحارها في الدم او في اللعاب بشكلٍ سريع وفعّال . وقد اكدّت معظم الدراسات العلمية المُتوفرة حتى تاريخ اليوم ان هذه الأجسام المناعية تبقى في الجسم على الأقل لفترة ثلاثة اشهر بعد بدء الأعراض المرضية. ولكن بعض الخبراء يقولون انها قد تستمرّ لفترات اطول دون ان يعروفوا اذا ما كانت ستبقى مانعة او كابحة لحصول الإلتهابات الفيروسية والأمر بحاجة الى الكثير من الوقت ومن الدراسات الدقيقة.
اما كيفية تعاطي هذا الجزء من المناعة مع اللقاح المُتوقّع فلا معطيات كثيرة حتى اليوم ونحن بإنتظار نتائج الكثير من الدراسات الجارية والتي كما ذكرنا سابقاً اعطت مؤشّرات اوّلية لنجاح اللقاح في تخفيز إفرازاها مع تأكيدنا على ان فترة وجودها في الجسم بعد حقن اللقاح غير معروفة بالكامل حتى اليوم وستختلف حتماً بين لقاح وآخر لأن كل لقاح لها مُكوّنات مختلفة عن الآخر. وبالتالي يجب تحليل ردّات فعل الجسم على كل لقاح على حدا ولا يمكن ابداً تعميم نتائج اية دراسة مع لقاح معيّن على لقاحات اخرى لأن المُكوّنات والجرعات وطريقة العمل مختلفة بين لقاح وآخر. كذلك يمكننا ان نُضيف انّ هناك طريق آخر اكثر تعقيداً وغير معروف حتى الآن بشكلٍ جيد من الخبراء وهو يمرّ عبر الخلايا التائية التي تفرز مواد مختلفة وتحتفظ بالذاكرة المناعية. وهي لها دور كبير لا يقدر احد ان يحدّد ماهيته وكيفية تفاعله واهميته حتى اليوم وكيف سيكون والى أي مدى في الفعالية ومع مرور الوقت بعد حقن اي لقاح من اللقاحات المُختبرة حالياً وانّ هذه الدراسات تحتاج للكثير من التجارب والدرسات المُعقّدة جداً.
د. طلال حمود- طبيب قلب وشرايين- مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود