أنهت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال الأسابيع القليلة الماضية أعمال مؤتمرها العام الثامن وسط ظروف سياسية معقدة على كافة الصعد، والحالة الفلسطينية الداخلية التي أضعفتها الاجتهادات السياسية الخاطئة ما زالت تراوح مكانها وغير قادرة على الخروج من عنق الزجاجة، بينما الحركة الشعبية العربية تتموج خارج شروط التغيير الإيجابي.
وإن كانت الأزمات الإقليمية والدولية التي تطبخ على نار هادئة تبدو مقبلة على طريق التسويات الكبرى، والمؤكد أن الأمة العربية لن تربح الشيء الكثير في ظل غياب المشروع القومي التقدمي الوحدوي أو في أقل تقدير، محاولة إيجاد صيغ متقدمة في التكامل الاقتصادي والثقافي وتعزيز المشترك واستثمارالمتاح وهو واسع، وحيث الترابط الجدلي بين الوطني والقومي يعكس نفسه بشكل مكثف على الواقع الفلسطيني سلبا وإيجابا، نقطة ارتكاز الصراع التاريخي ومكمن النجاح والفشل العربي الشامل.
ورغم قساوة الظروف وحجم الاختراقات الإستراتيجية التي لا يجوز التقليل من شأنها، ستبقى الأمة العربية بمواردها البشرية والاقتصادية وتراثها أكبر بما لا يقاس من أن تهزم بالمفهوم الاستراتيجي البعيد أمام الغزو الصهيوني المدعوم من قبل الإمبريالية الغربية، مهما كان حجم الدعم والتواطؤ، وهو ما أدركه العدو ومعظم ساسته ومفكريه الاستراتيجيين الذين نظروا للاندماج مع المحيط العربي عبر عمليات التطبيع. ولسنا هنا بصدد تناول الواقعي العربي المأزوم؛ حيث خيم الضباب على السماء العربية وحجب الرؤية الصافية عقود طويلة نتج عنها حركة عمياء تساق إلى حتفها بطيبة خاطر.
وتنهي الجبهة مؤتمرها والذي يضعها أمام استحقاقات نوعية، وهي التنظيم الثوري الجذري الأكثر وضوحا وإخلاصا وربما يمثل الحالة التقدمية الأبرز في الساحة العربية مما يضاعف من مسؤولياته ومهماته لجهة استنهاض ما يمكن استنهاضه فلسطينيا وعربيا في هذه المرحلة المحددة بسماتها العامة، وهو رهان معقود على كل القوى التقدمية. وخرجت بعملية تجديد واسعة طالت كل هيئاتها القيادية في تقليد ثوري مهم، و في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الأحزاب الثورية التي تطالب بالتغيير بينما تجثم قادتها عقودا طويلة في مواقعها، والبعض ينافس الأنظمة الملكية في توريث الأموات للأحياء، الأمر الذي يتناقص مع دعوته ويضعف من صدقيّة رؤاه وطروحاته.
القناعة راسخة في النهج الديمقراطي وضرورته، مما يفسح المجال لضخ دماء جديدة في الجسم التنظيمي ويعطي الحزب معنى الاستمرار والديمومة. إن المؤسسات والأحزاب كما الأفراد تتعرض للشيخوخة ولا مجال لتجديد شبابها إلا عبر المؤسسات الديمقراطية. وأثبتت الجبهة الشعبية بالملموس للمرة الألف بأنها تنظيم طليعي تقدمي ومدرسة ثورية ديمقراطية تحكمها علاقات تنظيمية ورفاقية ثابتة، ولم يعد أحد فوق المؤسسات وإرادتها الجماعية المنتخبة. مما يعطي لرؤيتها الفكرية والسياسية قيمتها وترجمتها العملية.
ويبقى السؤال هل حركات التحرر الوطني بحاجة إلى الديمقراطية؟ وهل خروج قيادات تاريخية بخبراتها وتجاربها يمكن تعويضها بيسر؟ وهل انتهاء عصر القائد التاريخي الكاريزمي الذي يعوض النقص في العمل المؤسسي؟ الصحيح أن القيادات التي عصرتها التجارب وأكسبتها شرعية وراكمت خبرات يحدث غيابها فجوة.. ومهما قيل وسيقال يبقى دور الفرد في التاريخ قضية جوهرية ويبقى عمل المؤسسات البديل الموضوعي الواقعي..وقد حسمت الجبهة الشعبية هذه الإشكالية النظرية التي تستمد مشروعيتها من التراث الثوري التقدمي و التي لا تقدم نماذج نقيضه في حيز الممارسة العملية وهي النقيصة الكبرى في هذا التراث الفكري العظيم.
ومهما كانت المآخذ بالنسبة للأحزاب التي لم تنجز المهمات الديمقراطية الرئيسية في مرحلة التحرر الوطني يبقى الخيار الديمقراطي الضامن الوحيد في تصليب بنية الحزب وتطويره بحيث تأتي الاختيارات الفكرية السياسية والتنظيمية المعبرة عن إرادة الأغلبية قابلة للتطبيق الفعلي و مهما قدمت من حجج ومبررات وجاهتها في ظروف محددة، تبقى الممارسة الديمقراطية خيار لا مندوحة عنه ليس للأحزاب فقط بل لكل الكيانات السياسية عموما. وقد أرست الجبهة الشعبية تقاليد حميدة تستحق الاحترام، وإذا كان لها السبق في العمليات البطولية النوعية والتعريف بالقضية الفلسطينية على الصعيد الدولي وفي خلق التحالفات الثورية السليمة و الالتزام الفكري والانضباط والسلوك الأخلاقي النبيل وتقديم الوجه المشرق للنضال الوطني الفلسطيني تثبت مرة أخرى بأنها حزب أيديولوجي عقائدي ديمقراطي..
ويعد التجديد لأمينها العام أحمد سعدات القابع في سجون العدو منذ 2006، الخرق الوحيد لنظامها الداخلي، وبهذا تؤكد فهمها الجدلي والمرن للديمقراطية كوسيلة تبني ولا تهدم، وليس تقليدا شكليا أعمى تتنصل عبرها من واجباتها الوطنية والأخلاقية..
كل التحية والتهنئة بنجاح مؤتمرها الوطني على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين.