“دين العقل وفقه الواقع” كتاب موسوعي لمفكر موسوعي | بقلم المحامي عمر زين
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
أحيانًا يستهويك عنوان كتاب دون أن تعرف كاتبه، وأحيانًا أخرى تقف عند كاتب الكتاب لمنجزه الفكري والثقافي وذيوع صيته، فما بالك حين يستهويك الكاتب وكتابه، وهذا هو نموذج الكتاب والكاتب الذي نحن بصدده، وأعني به كتاب “دين العقل وفقه الواقع” للكاتب الدكتور عبد الحسين شعبان.
والكتاب هو عبارة عن مدخل نظري، يدلّك على كيفية قراءة النصوص الدينية بأريحية كبيرة وبعد نظر، ودراسة تاريخية تأصيلية مرتبطة بالحياة، وفيه يثير الكاتب أسئلة يدعمها بإجابات لتنفتح على أسئلة أخرى في إطار تفاعل وتناسق منهجي لما هو قائم في إشكالات ماضية يعالجها الباحث بروح الحاضر، ومن التراث إلى المعاصرة، علمًا بأن الكثير من الأسئلة ما تزال حائرة وأحيانًا ملتبسة لدرجة لا يحاول البعض مقاربتها، لكن شعبان بجرأته المعهودة، وأكاديميته المعتبرة، لا يقاربها فحسب، بل يدخل في صميمها من خلال محاورات ومناظرات ومناقشات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي.
يحاول شعبان وهو المفكّر المدني العلماني اليساري العروبي المنفتح أن يضع القضايا الخلافية والانقسامات التي تتردّد على أفواه العامة أحيانًا والصراعات الخفية والمعلنة على طاولة البحث، ليشبعها نقاشًا وسجالًا وتقليبًا مع الفقيه الديني العروبي آية الله السيد الحسني البغدادي، وهذا النقاش حرّ ومتكافئ وملتزم بأدب الحوار، فيتماهى المتحاوران أحيانًا ليصبحا شيئًا واحدًا أو هكذا يبدو، وأحيانًا أخرى يتباعدان وتكون المسافة بين الإثنين ساحة حرّة للقاء مرّة أخرى.
وتكمن أهمية الكتاب بمقدّمته العميقة، ومناظراته الحيّة، في أنه يفتح ملفّات ظلّ الكثير منها مغلقًا، علمًا بأن مجتمعاتنا تعيش تفاصيلها في الحاضر، على كل ما فيه من تعصّب وتطرّف وغلو، بل وضياع أيضًا. ويصبح الاقتراب من هذه الملفات ملغومًا ومريبًا وأحيانًا غير مسموح به، بسبب إدّعاء كلّ فريق أن عقيدته أو مذهبه الأحق فيها، لذلك تجنبها الكثيرون وغضّوا الطرف عنها، مبتعدين عن وجع الرأس التي تسببها، ولكنها ظلّت تعيش استكانة وركودًا وعدم تجديد ويتراكم عليها الغبار لعقود وقرون من الزمن.
المفكّر شعبان استمرارًا في منهجه وكتبه السابقة حول” فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي” وحول “الإسلام وحقوق الإنسان” و”أغصان الكرمة – المسيحيون العرب” وغيرها توقف عن المسكوت عنه أو المهمل أو الخطير الذي لا يريد أحد الاقتراب منه. وحاول أن يقدّم مع محاوره قراءات مختلفة عمّا هو سائد بما يتناسب مع الفكر التنويري التقدمي الذي يحمله وبقراءة واقعية من جهة، واستشرافية من جهة أخرى، وذلك في إطار تعزيز الهويّة الثقافية في حاضرنا توقًا لأن تلعب دورًا مستقبليًا، ولم ينسَ على خلاف كثيرين دور العامل الديني فيها، بل حاول أن يضيء عليه لأن دوره تاريخيًا في مجتمعاتنا ولا يمكن إهماله، خصوصًا حين يكون عامل توحيد لمواجهة التحديات الخارجية الاستعمارية، أو عامل تفريق حين يستخدمه البعض لإثارة الحزازات الطائفية والنعرات المذهبية.
لقد طرح شعبان إشكاليات الحداثة بأوسع أبوابها متناولًا الحداثة والتقليد وأهمية الوعي، ولاسيّما التاريخي، ودور الاجتهاد في الاسلام، والعلاقة بين الديني والعلماني، وتوقّف عند شعارات الإسلام دين ودولة، وأهمية إصلاح المجال الديني، واعتبر أن لا إصلاح دون إصلاح الحقل الديني فكرًا وخطابًا.
وكانت مناظراته شجاعة، فهو يسأل الفقيه البغدادي: من هو المؤمن ومن هو غير المؤمن؟ ويقول أن ثمة إشارات غامضة تأتيه من السماء تشعره بالطمأنينة فيرتاح لها، سواء أدّى الطقوس والشعائر أم لم يؤدها، ويبحث في العلاقة الملتبسة بين الدين والعنف والدين والإرهاب، ويسأل أين المقدّس وأين المدنّس، هل الأمر للفعل أم للدلالة؟ هذا في (ص67)
ولا ينسى هو والفقيه البغدادي من توجيه النقد لبعض ما يسمّى “برجال الدين”، علمًا بأنه في الإسلام لا وجود لمن يطلق عليهم “رجال دين” كما هو في المسيحية (إكليروس)، بل هناك دارسون وباحثون، وقلّة قليلة منهم علماء كما يقول، وما نطلق عليه رجال الدين بينهم الصالح والطالح، فهم بشر مثل الآخرين يصيبون ويخطئون كما جاء في (ص 109).
وينتقد كاتبنا مبدأ التقليد، بوضع وسيط بين الإنسان وخالقه، وقد منح الله البشر عقولًا وهذه هبة ربانية لا ينبغي إيكالها أو إعارتها إلى أحد أو تكليفه بمهمّة التفكير نيابة عنه. وهذا حسب رأيه إستقالة من العقل.
ويطرح شعبان سؤالًا محوريًا جريئًا يشرك فيه محاوره: هل الفتوى ضرورية؟ وماذا إذا كانت مفرقة ومن له الحق في إصدارها؟ بما له علاقة بما هو حاصل من فتنة طائفية ومذهبية بالضدّ من المواطنة المتساوية التي يركّز عليها الكتاب في مفاصل عديدة بطريقة منهجية وأكاديمية وحس عروبي.
ويناقش الكتاب بعض الهموم العراقية بشأن الأوقاف وحضرة الإمام علي (ع) واستغلال القوى الغربية الاستعمارية احتلال العراق للتفريق بين المجموعات الثقافية تحت عنوان “المكوّنات” التي يرفضها رفضًا قاطعًا ويبيّن خطرها القانوني والاجتماعي وخطرها السياسي على وحدة العراق ومستقبله، وهي التي كرّست بالدستور.
ويناقش الفقيه البغدادي حول حقوق الأكراد، ففي حين يذهب هو بعيدًا في تبني فكرة الفدرالية قانونيًا، ويعرض مزاياها بالصورة التي يضعها في إطار الفقه الدستوري، ولا يقصد بذلك بوضعها الحاضر، وإنما بمضمونها القانوني المستقبلي الذي يحتاج إلى تغيير الدستور الطائفي القائم على المحاصصة، يتحفّظ البغدادي عليها، وربما هناك تحفّظ عربي حول استغلالها لأغراض إنفصالية، تقف “إسرائيل” والقوى الغربية خلفها مباشرة أو بصورة غير مباشرة وفق ما جاء (ص 189 – 197).
ويلامس شعبان قضايا ذات حساسية عالية، مثل هل المرأة ناقصة عقلًا ودينًا؟ وهل هي عورة؟ ويبسط القوانين التي تنصف المرأة مثل قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959 وينتقد بشدّة ما سمي قانون الأحوال الشخصية الجعفري التي تبنّته القوى التي تريد تكريس الاستقطاب الطائفي والذي أثار لغطًا واسعًا وفق ما جاء في (ص 237).
كما بحث في قضايا الردّة والمرتد والنجاسة والطهارة والعصمة والمعصوم وعلم الغيب، وجميعها مواضيع مثيرة وبعضها يُبحث لأول مرّة عبر حوار أكاديمي معرفي فقهي قانوني مفتوح وجرئ وهادف في الآن، وبلغة سلسة وعميقة ومؤثرة. ولعلّ ذلك يحتاج إلى مداخلات أوسع.
وسأتوقّف عند هذه الملاحظات العامة لأحدّد بعض الآراء والأفكار المهمة التي جاء عليها المؤلف وهي تمثّل آراء وأفكار متميّزة أحاول الإضاءة عليها:
1- إن العقل أساس الدين ولا دين حين يتعارض مع العقل. ويعتبر الاجتهاد أساس العقل والأديان تعلّم الحب والقيم الإنسانية العادلة ولا دين حين يكون عنيفًا وقاسيًا وظالمًا وغير إنسانيًا وفق ما جاء في (ص 22).
2- الدعوة إلى المصالحة بين النص والواقع كي يكون عنصر تحرّر وتغيير لا عنصر سكون وخضوع وفق ما جاء في (ص39).
3- الدين مصدر للسعادة والطمأنينة وهو حقل للحب والرحمة والتسامح والجمال ولا يعني الخوف من العقاب بسبب فكرة الموت وفق ما جاء في (ص 60).
4- الشجاعة فضيلة من فضائل القلب وفق ما جاء في (ص 71).
5- ثمة ارتكابات حصلت خلال الفتوحات الإسلامية وهي ارتكابات باسم الله ولا ينبغي إنكارها والتقليل منها.
6- المشكلة ليست مع الدين، بل مع التديّن. (ص 74) وهذا الأخير منتج بشري لا قداسة له. (ص 87)
7- رفض الطائفية بجميع صورها وأشكالها وتفنيد حجج الطائفيين فهل يعقل أن يتقاتل المسلمون على أمر مضى عليه 1400 سنة ونيّف من الزمن، ويدعو بقانون إلى نبذ الطائفية وتعزيز المواطنة. ويدين الفتنة الطائفية. (ص 125 – 142) ويكشف تدخلات الاحتلال الأمريكي في القضايا الدينية، خصوصًا تقسيم الوقف إلى سنّي وشيعي وأوقاف أخرى، وهو الأمر الذي يستفيد منه أمراء الطوائف. وهو ما يذكره بول بريمر في كتابه (عام قضيته في العراق) (ص 161)، لذلك ترى الكاتب يترفّع عن الانحيازات الطائفية والمذهبية، خصوصًا حين يعرض مشكلات الدولة العراقية المعاصرة مفرقًا بين اختصاصات الدولة وبين ما يسمّى بالمرجعية الدينية. (ص 186)
8- لا تقدّم حقيقي دون ضمان حقوق المرأة و والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية (وليس المكونات التي وردت في الدستور ويستشكل مصطلح الأقليات) ودون قبول التقدّم الاجتماعي. لذلك يعلن موقفه صريحًا إلى قانون موحّد للأحوال الشخصية. (ص 237)
9- يستند الأخ العزيز الدكتور شعبان إلى القرآن فلا إكراه في الدين ويرفض التكفير والتأثيم والتحريم والتجريم ويدعو إستنادًا إلى القانون إلى إعادة قراءة النص الديني وتفسيراته وتأويلاته بما ينسجم مع الحق والعدل والروح الإنسانية والتطوّر التاريخي وسمة العصر ويذكر أمثلة للتكفير المعاصر ما حصل لـــــ (فرج فودة، نجيب محفوظ، جار الله عمر وآخرين). (ص 222)
10-تسليط الضوء على ما يسمى فقه المخارج و”الحيل الشرعية” والتفريق بين اليسر والعسر والمرونة والتشدّد خارج دائرة التلاعب بالقيم والمفاهيم باسم التعاليم الدينية. (ص 254)
وأود أن أشير هنا إلى الخاتمة الشفافة التي كتبها الدكتور حسينعن علاقة الدين بالظرافة وخفّة الدم، وفيها تأكيد على ما في الدين من أريحية وسماحة، “فليست كلّ عين ترى” كما يقتبس من جلال الدين الرومي، لذلك علينا أن نرى ما هو مرن وسمح وخيّر من الأشياء.
وقبل أن أختتم مداخلتي أقتبس ما ورد من تعريف الكاتب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية الذي أسسه د. خير الدين حسيب فهو: “أكاديمي ومفكّر وكاتب من الجيل الثاني للمجددين العراقيين والعرب، عمل في الحقل الحقوقي والمهني والأكاديمي والثقافي… وله مساهمات ثقافية متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة، وانشغل بالفكر الديمقراطي والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والتنمية من خلالها كتب عن الإسلام المعاصر والمسيحية المعاصرة بما فيها قضايا التسامح واللّاعنف، ونال جوائز وأوسمة لمساهماته المتميزة، منها جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة 2003) وهو يستحق ذلك.
وأقول كما ذكرت في مداخلتي عند تكريمه في تونس (العام 2016) من جانب “المعهد العربي للديمقراطية” و”الجامعة الخضراء” و”مركز الجاحظ” : أن شعبان جمع بين الفكر والممارسة، وبين العمل الأكاديمي والنضالي، وبين الحقوق والثقافة، في تناسق وانسجام، لا يمكن للمراقب أن يفصل بين هذه الجوانب المختلفة المتنوعة المتعدّدة التي اجتمعت في شخصيته، فهو بحق مثقف جامع وموسوعي، امتازت جملته بالعمق والدقة، مثلما تناغمت حرفة الأدب فيها والكتابة الوجدانية.
إن كتاب ” دين العقل وفقه الواقع” هو فسحة جديدة من الحريّة الفكرية والحوار وأعني العقلاني المنفتح وهو دليل جديد على مصالحة بين “ماركسية” عبد الحسين شعبان مع الدين كمكوّن روحي ضروري وأساسي للإنسان وهي نظرة تمتاز بالقبول وحريّة الاعتقاد والاختيار وليس على التصادم والشر والإكراه. ويثبت شعبان في هذا الكتاب إضافة إلى مساهمات أخرى أنه ضليع ليس في الفكر الماركسي وناقد له فحسب، بل هو ضليع كذلك في الفكر الديني ونقده أيضًا.
إن الكتاب إضافة مضيئة للمكتبة العربية فتحية له وللفقيه البغدادي وللعقل والنقد.
وندعو كل المفكرين العرب الإستفادة من الطروحات التي وردت في الكتاب وأسلوب المناقشة والتوجيه الى الصحيح من الأفكار التي من الضروري جدًا وصولها الى الأجيال، كي يحملوها ويساهموا مساهمة جدية ومنتجة في المشروع النضوي العربي .
مداخلة القيت في منتدى الفكر العربي – عمّان يوم 29/6/2022.