ملف العراق المزعج للادارات الامريكية منذعهد بوش حتى هذه اللحظة مر بتغيرات وتقلبات عدة ومازال.
ولم أجد في أي من الإدارات السابقة تصنيف لبغداد بأنها حليف استراتيجي لواشنطن. وعلى الرغم من أن ظاهر العلاقات بين الطرفين كانت تشير الى الاستقرار والدعم المتواصل لحكومات بغداد المتتالية (بغض النظر عن رئيس الحكومة)إلا أن هذا الدعم لم يكف لاخراج العراق من مشاكله الاقتصادية والامنية وعلاقاته مع المحيط الاقليمي والعربي .
ولأكن موضوعيًا فإن معظم الحلول تتعلق بحكومة بغداد أكثر من إدارة البيت الابيض، فالولايات المتحدة بعد قرار الانسحاب وتوقيع اتفاقية الاطار الستراتيجي بدأت تنأى بنفسها عن (قلق) العراق، رغم ان الاتفاقية لم يلتزم بها الطرفان أو لم يكترثا بها .
ولكن عادت واشنطن لتدعم العراق بعد احتلال داعش سنة 2014 لثلث مساحة العراق ،وتهديدهذه المنظمة الارهابية لأمن العالم، لقد عادت واشنطن لدعم العراق عسكريا وماليا بالاستناد الى اتفاقية الاطار الستراتيجي المشترك بين الطرفين.
وقد نجحت الحكومة العراقية أنذاك بخلق أجواءٍ جديدة سواءً مع الشركاء في الوطن أو مع المحيط العربي والاقليمي أدى الى ترؤس واشنطن لحلف دولي لمحاربة منظمة داعش الارهابية وقد تكلل هذا الامر بتحرير كل الاراضي العراقية وانحسار الارهاب بعمليات يتيمة بعد أن تلاشت قوتها العسكرية .
كان انتصار العراق يُعد حافزا جديدا لواشنطن والعالم بالتعامل مع قصة نجاح جديدة، لكن رئاسة ترامب وسياسته لا تكترث بمجريات الاحداث بالعراق،أو بالاحرى لم تكن من اولوياته مسألة التحالف ضد داعش ، كانت أفكار الرجل غريبة عن الادارات السابقة وقد جعلت معظم اصدقاء الولايات المتحدة في حرج من تصرفاته وقرارته التي أخلت بمكانة الولايات المتحدة في العالم.
ومن حسن حظنا أن الامور كانت في الشهور الاخيرة وكان التنظيم الارهابي يلفظ أنفاسه الاخيرة ،ولم يتبق الا تحرير الموصل .
كان هذا الامر يجري بتخطيط الحكومة انذاك التي كانت تعمل على الاسراع في وتيرة التحرير من أجل فرض واقع رسمته من بداية تشكيلها ،خلافا لما أراده الاخرون بستراتيجية اخرى كانت مبنية على (إحتواء تنظيم الدولة) كأمر واقع .أو لفرض واقع التقسيم المخطط له ،ولهذا كتبت احدى الصحف الكبرى بخط عريض في افتتاحيتها (انتهاء العراق ) بمجرد سقوط الموصل. وكان تفاعل الرئيس ترامب مع العراق بضغط من ادارته (وزيري الدفاع والخارجية) حيث اقترحا أن يكون لقاءً في واشنطن مع العبادي رئيس الوزراء الاسبق لبدءصفحة جديدة من العلاقات بعد مرحلة داعش .
ولم تتطور الامور حتى مجيء عبدالمهدي الذي لم يزر واشنطن لاسباب تتعلق بمزاجية وشخصية ترامب ، حيث حاولت ادارة عبدالمهدي الحصول على موعد لزيارة واشنطن إلا أنها تأجلت لاكثر من مرة حتى اندلاع التظاهرات وتسارع الاحداث التي أدت الى استقالته. وكان التصرف العدواني في حادثة المطار التي راح ضحيتها سليماني والمهندس وعدد من مرافقيهم بغض النظر عن المبررات إلا أنه حدث عدواني وتم دون موافقة الحكومة العراقية، بمثابة ضربة قاسمة وهزة عنيفة للعلاقات بين البلدين.
ويبدو أن زيارة الكاظمي لم تخلق جوا مؤيدا لبغداد لاسباب اهمها رؤية ترامب لمثل هذه العلاقة ، وأسباب كثيرة لست بصدد مناقشتها في هذا الموضوع إلا أن توقيتها كان حرجا جدا. ولم يلتق رئيس الوزراء الا بزعيمة الكونغرس نانسي بيلوسي كسياسية من الحزب الديمقراطي وكان اجتماعا على عجل ،ولاأدري هل كان ضمن جدول الزيارة ، أم تم ترتيب اللقاء حدث بعد تواجده في واشنطن حيث كانت التسريبات تشير الى بقائه في واشنطن للقاءات اخرى ،إلا أنه فضل العودة مراهناً على لقاء ترامب فقط ، وهو ما يعتبر تفويتا لفرصة كبيرة لان المسؤولين الامريكيين تتغير قناعاتهم باللقاءات الثنائية ،وهذا الامر قد ينطبق على جميع السياسين في العالم .
قد يكون التساؤل عن رؤية الادارة الجديدة للتعامل مع العراق أمر ملحا ،وهناك مستجدات طرأت منذ المجيء بعبدالمهدي، حيث الواقع الجديد الذي ستتعامل معه واشنطن والادارة الجديدة. فالعراقيون يعيشون هاجس بايدن المتعلق بالاقاليم الثلاثة ،الذي استند على عدم توافق الشيعة والسنة والاكراد بحكومة شراكة وطنية ،أدت ببايدن أن يقدم هذا المشروع ، والملاحظ أنه لم يتطرق لهذا المقترح عندما تولى ملف العراق في عهد الرئيس أوباما مما يعني أن الرجل أجَّل هذا المقترح أو تناساه لان الجميع توحدوا بقتال داعش ولم يكن الأمر مبررا في تلك الفترة .
بايدن والعراق مرحلة جديدة
اعتقد أن الملف العراقي سيأخذ حيزا أكبر مما كان في عهد ترامب ،الذي يميل للفوائد الشخصية أكثر من أي شيء. حتى في أوج القتال مع داعش لم يكن يولي الملف أهمية أو لم تكن من اولوياته .
ولهذا تفاجئ بإن يُنسب النصر على داعش له ، وسارع الى اعلان هذه الشهادة المجانية التي مٌنحت له. برأيي سيعود العمل في الرئاسة الامريكية للمؤسسة الحاكمة، كما هي عادة الرؤساء السابقين التي شذ عنها ترامب ،إلا أن المؤسسة الحاكمة استطاعت أخيرا التخلص منه ولو على حساب خسارة الجمهوريين ، وقد سجلت هذه الانتخابات ميلا من الجمهوريين وجمهورهم نحو المرشح الديمقراطي ،ولعلها المرة الاولى منذ السبعينيات تحدث مثل هذه الخلخلة بالولاءات ،التي كان سببها ترامب نفسه لاغيره، كانت مزاجيته ،وعدوانيته ضد مخالفيه بالرأي أمرا لم يسبقه أحد في البيت الابيض ، أو لنقل لم تظهر للعلن بهذه الطريقة.
إن عودة مرشح من داخل المؤسسة السياسية سيعطي الاتزان للرئاسة الامريكية ،وسيعيد الاوراق المبعثرة في العالم التي شهدت انحسارا في مناطق معروفة لنفوذ الولايات المتحدة ،وما جناه ترامب هو مكاسب مالية شخصية في صفقات باسم الولايات المتحدة ، وكان نصيبه من خلال مؤسساته التجارية معروفا .
ما يهمنا كعراقيين هل سيكون الملف العراقي من اولويات الرئيس الجديد(بايدن). هذا بحاجة الى دراسة معمقة ونحن نعلم أن بايدن كان من المؤيدين لبرنامج رئيسه اوباما في الانسحاب الامريكي. ولنرى هل ستبقى مبرراته في مسألة الاقاليم الثلاثة التي رأها حلا لمشكلة العراق أنذاك بعد فشل الحكومة والاطراف الاخرى بالتعايش لانقاذ العراق من الوضع المتردي بعد 2003،أم أن الامور اختلفت باختلاف الوقائع على الارض .
هل تستطيع الولايات المتحدة ضبط ايقاع الاطراف الثلاثة، هل ستسمح بتمدد مفترض لايران وتكون باطلالة أكبر على منابع النفط بالخليج وبشكل اكثر قربا على القواعد الامريكية في المملكة السعودية والكويت. أم إن مشروع الاقاليم سيكون موائما لامتداد اللاعب الاقليمي الجديد (اسرائيل ) التي لم تعد تكتفي باتخاذ دور الفتى المدلل المحمي من الاب الاكبر (الولايات المتحدة)، وأصبحت تتخذ مبادرات عديدة سياسية واقتصادية وجدت بعض الدول العربية فيها ضامنا لأمنها !.وبعض الدول وجدت في التطبيع معها متنفسا اقتصاديا وعودة للمجتمع الدولي كما هو الحال مع السودان.
ان الامر يتعلق اولا ببغداد ماذا تريد ؟وأين تسير في علاقاتها الدولية .
لقد كان بايدن يفضل الحديث مع السياسين العراقيين في حل المشاكل العالقة وكذلك في العلاقات بين بغداد وواشنطن ،ويرفض الحديث مع طرف ثالث ورابع .لهذا أعود وأقول إن بغداد هي من ستحدد المسار لهذه العلاقة ،وهي من تجذب أصدقاء جدد ، أو تخلق أعداءً جدد.