الاحدثدولي

الأُمَمُ المُتَّحِدة على كَفِّ … ترامب! | بقلم غابي طبراني

كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أول مُهنِّئي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفوزه الثاني بسباق الرئاسة. وكان غوتيريش تولّى رسميًا منصبه في العام 2017 مع تولّي ترامب لمنصبه رئيسًا للولايات المتحدة لأول مرة، حيث عرفت العلاقة بينهما خلال تلك الفترة تحدّياتٍ شديدة وهجومًا شرسًا شنّه ترامب على العديد من مؤسّسات الأمم المتحدة.

ويبدو أنَّ الحظَّ السيِّئ يُلاحق غوتيريش، فهو سيُنهي ولايته الثانية والأخيرة أمينًا عامًا للأمم المتحدة بعد سنتين (نهاية 2026)، أي في منتصف الولاية الثانية لترامب. ولم تَكُن العلاقة بين أميركا والمنظمة الدولية، خلال السنوات الأربع الماضية، أي في أثناء حكم الرئيس جو بايدن، جيدة، خصوصًا بعد حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزة، إلّا أنَّ العلاقة بين ترامب والأمم المتحدة في السنوات الأربع المقبلة، لا شك ستقضُّ مضجعَ الكثيرين في المنظمة الأممية، إن لم تُهدّد بقاءها.

منذ بداية ولايته الثانية في البيت الأبيض اتخذَ ترامب قراراتٍ انسحبت الولايات المتحدة بموجبها من أجزاءٍ من نظام الأمم المتحدة، وليس من الواضح متى ستنتهي هذه العملية.

بعدما أعلن أنَّ الولايات المتحدة ستنسحب من اتفاقية باريس لتغيُّر المناخ ومنظمة الصحّة العالمية في أول يوم له في منصبه، أعلن ترامب في الأسبوع الفائت في أمرٍ تنفيذي أنَّ أميركا لن تُمَوِّلَ بعد الآن مجلس حقوق الإنسان ومقره جنيف ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). لم تُشكّل أيٌّ من الخطوتَين مفاجأة كبيرة: انسحب ترامب من مجلس حقوق الإنسان خلال فترة ولايته الأولى، وجمّدت إدارة جو بايدن تمويل “الأونروا” في العام الماضي بسبب مزاعم بأنَّ بعض الموظفين مُرتَبطٌ ب”حماس”.

إذا لم تكن هذه الإيماءات صادمة بما فيه الكفاية لمسؤولي الأمم المتحدة، فإنَّ الأمرَ التنفيذي الذي أصدره ترامب في الرابع من شباط (فبراير) ألمحَ إلى المزيد من المتاعب في المستقبل. فقد أعلن عن مراجعةِ عضوية الولايات المتحدة في منظمة اليونيسكو التي تتخذ من باريس مقرًّا لها، والتي اتهمتها الإدارات الأميركية المُتعاقبة بالتحيُّز ضد إسرائيل، وطلبَ من وزير الخارجية ماركو روبيو وإليز ستيفانيك، مرشّحة الإدارة لمنصب سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة “إجراء مراجعة لجميع المنظمات الدولية التي تتمثّل فيها الولايات المتحدة” وكذلك جميع المعاهدات التي تكون طرفًا فيها (والتي من شأنها أن تشمل ميثاق الأمم المتحدة). وقد كُلِّف روبيو وستيفانيك بالتوصية بما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة الانسحاب من أيِّ ترتيبات أخرى من هذه الترتيبات، على الرُغم من أنَّ لديهما ستة أشهر للقيام بذلك.

لكن هل هذا يعني أنَّ أميركا قد تنسحب من الأمم المتحدة؟ يخشى بعضُ المسؤولين الدوليين أن يكونَ هذا بمثابة مُقدّمة لانسحابٍ عام للولايات المتحدة من نظام الأمم المتحدة. ويُفيدُ أحد التقارير أنَّ أحدَ كبار مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة حذّرَ أخيرًا من أنَّ المنظمة العالمية تمرُّ بلحظةٍ أشبه بانهيارِ عصبة الأمم في ثلاثينيات القرن العشرين. وهناكَ تحليلٌ أكثر جدية وهو أنَّ الولايات المتحدة لن تنسحبَ من الأمم المتحدة تمامًا، بل ستُركّز مشاركتها المتعددة الأطراف على نحوٍ أضيق كثيرًا من ذي قبل. وقد ألمحت إليز ستيفانيك إلى بعض نتائج المراجعة المقبلة، حيث أشادت ببرنامج الغذاء العالمي ووكالة اليونيسيف للأطفال ــوكلاهما يديره تقليديًا مرشحون أميركيون ــ في جلسة تأكيد تعيينها أملم لجنة مجلس الشيوخ.

مع ذلك، فمن المُمكن أن تتشابكَ هذه المناقشات المالية مع النزاعات حول أجزاءٍ أخرى من أجندة السياسة الخارجية لترامب. ولكن هل سيستمر ترامب في سياسته العدوانية؟ لقد أثارَ إعلانه أنَّ الولايات المتحدة قد تُسيطرُ على غزة ــإلى جانب تلميحاته إلى أنه قد يدعم ضمًّا إسرائيليًا رسميًا للضفة الغربيةــ حالةً من الذعر بين أعضاء الأمم المتحدة، على الرُغم من أنَّ المسؤولين الأميركيين تراجعوا منذ ذلك الحين عن تصريحاته الأكثر جنونًا. وإذا مضى ترامب قُدُمًا في تنفيذ أفكاره الرامية إلى فرضِ قيودٍ أكبر على حقوق الفلسطينيين أو منعهم من الوصول إلى أراضيهم، فسوف تواجه الولايات المتحدة إدانة في مجلس الأمن الدولي (حتى لو كان بوسعها استخدام حق النقض لمنع أي لوم رسمي) وغضبًا في الجمعية العامة. وهناكَ خطرٌ يتمثّلُ في أنَّ واشنطن قد تزيدُ من حدّة الموقف من خلال التهديد بسحب التمويل عن المزيد من وكالات الأمم المتحدة، أو الانسحاب منها، ردًّا على هذا الانتقاد.

والحقيقة أنَّ المفارقة هنا هي أنه إذا ما حاولت الولايات المتحدة الانخراط بشكلٍ بَنّاءٍ مع أعضاءٍ آخرين في الأمم المتحدة في مناقشة نقاط القوة والضعف في المنظمة، فقد تحظى بتعاطُفٍ غير مُتَوَقَّع. يتّفقُ العديدُ من الدول على أنَّ المنظّمة العالمية تحتاجُ إلى بعضِ التدقيق. وقليلون هم مَن يتقاسمون عداءَ إدارة ترامب لمنظمة الصحة العالمية أو ميثاق باريس. ولكن وراء الكواليس، يعترف الكثير من الديبلوماسيين بأنَّ نطاق مهام الأمم المتحدة واختصاصاتها أصبح مُفرِطًا على مرِّ السنين. إنَّ إلقاءَ نظرةٍ على الأمم المتحدة من شأنه أن يعطي فكرةً عن قدرٍ لا بأس به من التكرار البيروقراطي. فقد تعامل ما لا يقل عن أربعة مبعوثين مختلفين مع جوانب تغَيُّرِ المناخ بالتوازي في السنوات الأخيرة (تعهد الملياردير مايكل بلومبيرغ بتغطية بعض التخفيضات التي فرضها ترامب على عمل الأمم المتحدة في مجال المناخ).

من ناحية أخرى، يتعرّضُ المسؤولون في نيويورك وجنيف أيضًا لضغوطٍ لكَبحِ جماح نفقات الأمم المتحدة. ويتسبّبُ تجميدُ المساعدات الخارجية الأميركية الحالي في إحداثِ اضطراباتٍ واسعة النطاق في وكالات الأمم المتحدة، حيث يتساءل المسؤولون عمّا إذا كان بوسعهم إنفاق الأموال الأميركية الموجودة أصلًا في حساباتهم. ولكن هذا لا يؤدّي إلّا إلى تفاقُم الوضع المالي المتدهور بالفعل. فقد حذّر غوتيريش من أنَّ الأمانة العامة للأمم المتحدة كانت على وشك نفاد أموالها بالكامل في العام الفائت، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى تأخُّر الولايات المتحدة في سداد مستحقّاتها. وبوجود ترامب أو عدم وجوده، بدأت مالية الأمم المتحدة تبدو غير مُستدامة.

في المحادثات التي جرت في الأشهر الأخيرة، زعم ديبلوماسيون أنَّ الوقتَ قد حانَ لمُراجعة أنشطة المنظمة الدولية وكيفية تخصيص مواردها. إنهم يرون أنَّ هناكَ حاجة إلى رسمِ خريطةٍ أكثر وضوحًا لكيفية تطبيق مختلف فروع تمويل الأمم المتحدة على الأزمات والمشاكل المختلفة، وتحسين التقارير والمحاسبة من أقسامِ المنظمة بشأن أنشطتها. ويعترف ديبلوماسيون كثر بأنهم هُم مَن يُشكّلون في بعض الأحيان جُزءًا من المشكلة. وقد شجّعَ أعضاء الأمم المتحدة أخيرًا المنظمة على التركيز بشكلٍ أكبر على منع الصراعات، ولكنهم في الوقت نفسه خفّضوا التمويل المُخصَّص للمكاتب والبرامج التي تعمل على منع الصراعات.

لكن إذا عرضت إليز ستيفانيك إجراءَ محادثاتٍ جادة حول كيفية ترشيد عمل الأمم المتحدة، فقد تجد من يتقبّلها. بطبيعة الحال، لن يكون جميع أعضاء الأمم المتحدة على استعدادٍ للموافقة. فقد انتقدت الدول النامية إدارة بايدن لفشلها في التعامل مع احتياجاتها الاقتصادية بجدّيةٍ كافية، وستنظر بارتيابٍ إلى التخفيضات المُبكرة وتجميد المساعدات من قِبَل ترامب. وحتى تلك الدول التي تؤيد تقليص موازنات الأمم المتحدة لن تتفق مع واشنطن في كل نقطة. ولكن هناك مساحة للتفاوُض.

على العكس من ذلك، إذا اتخذت الإدارة الأميركية نهجًا مُماثلًا بالنسبة إلى الأمم المتحدة كما اتخذته تجاه الوكالة الأميركية للتنمية الدولية -التلاعب بالقواعد ومعاقبة المنتقدين – فإنَّ النتيجة ستكون فوضى ديبلوماسية. وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مُحاصَرة في خلافاتٍ متوازية بشأن تمويل الأمم المتحدة والشرق الأوسط، وتفقد رأس المال السياسي خلال ذلك. في جلسةِ تأكيدها أمام لجنة مجلس الشيوخ، أكدت إليز ستيفانيك على الحاجة إلى تعزيز التحالفات والتواصل مع الجنوب العالمي. وسوف تكون مواقفها المُبكرة بشأن تمويل المنظمة حاسمة لكلا المَسعَيَين.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى