التجربة الكوبية.. نموذج مشرق | كتب مسعود أحمد بيت سعيد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في هذه المقالة نسلط الضوء على واحدة من أهم التجارب الثورية الإنسانية التي لعبت دورًا طليعيًا ضد الهيمنة الإمبريالية خلال العقود الماضية؛ حيث قدمت نموذجًا رائعًا في بناء الإنسان الجديد المتحرر من كل أنواع الاستغلال والاضطهاد. والتي أعطت البشرية برهانًا ساطعًا بأن الإنسان هو أثمن رأس مال.
ورغم إمكاناتها المحدودة قدمت واحدا من أفضل النظم التعليمية والصحية على المستوى العالمي. هناك بالطبع نماذج كثيرة مضيئة تستحق الاهتمام، ولسنا بصدد تناولها اﻵن.. في كوبا الفقر والغنى والمناصب العامة ليست إرثا وتسود مساواة تامة في الحقوق والواجبات. ولا يملك البعض الملايين بينما يتضور البعض جوعًا. لقد فشلت معظم البلدان ذات الموارد الطبيعية الكبيرة في توفير مستوى معيشي لائق لشعوبها، بينما نجحت كوبا ذات الموارد القليلة والقليلة جدا.
هل بسبب تكوين سلطتها التي وفرت حماية دستورية لقيم المساواة والعدالة؟
لقد تضمنت معظم دساتير العالم مثل هذه القيم ولكنها ظلت حبرا على ورق في حيز التطبيق العملي. التساؤلات كثيرة حول طبيعة برامجها السياسية والاجتماعية ومدى جدواها وأهميتها وملاءمتها لاحتياجات واقعها وانعكاساتها على عموم الشرائح الاجتماعية؟ هناك نظامان اقتصاديان وسياسيان في العالم خبرتهما البشرية وسبرت أغوارهما عبر تاريخها الطويل، الرأسمالية التي تقول بالملكية الفردية والتي تُجيز من حيث المبدأ تملك الأفراد مصادر الثروات الطبيعية واستغلالها للمصلحة الفردية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن لأفراد أو لفرد استغلال موارد بلد دون حماية؟ الأنظمة الرأسمالية ترعى هذه السيطرة، وكيف تكون السلطة للجميع وفوق الجميع إذا كانت تُمكن شخصًا ما من الانتفاع بجزء من ثروات الوطن لمصلحته الخاصة؟ والاشتراكية التي تقول بالملكية الجماعية لمصادر الثروة وتوزيعها توزيعًا عادلًا، بعد اقتطاع ما تحتاجه المشروعات ذات النفع العام المشترك. الموارد الطبيعة لم تكن قبل آلاف السنين ملكا لأحد بل كانت ملكية جماعية لعموم سكانها وعبر حُقب تاريخية انتقلت الأرض من ملكية جماعية يستغلها الجميع ويوزع غلها عليهم بالتساوي إلى ملكية قبلية ثم أسرية ثم فردية، وفي كل طور كان هذا الانتقال في الملكية يُفقد البعض مصادر الرزق وتتضاعف الثروة عند الآخر ويقذف بالألف ثم الملايين مع زيادة عدد السكان إلى مهاوي الجوع والبطالة، بينما تستحوذ الأقلية على كل شيء مما يخلق لديها فائضا. وعندما توسعت وتشعب تلك المصالح أوجدت آليات ومؤسسات لحماية ما انتُزع بالقوة أو بالوراثة أو بطرق أخرى وسُنت التشريعات لحماية الملكية التي لا ترحل. والغريب أن الأكثرية ليس لديها ملكية خاصة ومع ذلك تقوم القيامة عندما يتعرض هذا المفهوم لمجرد النقاش.
وفي تطور تاريخي مديد انتقلت تلك المؤسسات من الحياد تجاه الجميع إلى عملية تنظيم الاستغلال وحمايته وإلى تحويل عموم السكان إلى اقنان في خدمتها لتأبيد عبوديتها والتسليم بشرعية وجودها، جرى هذا قبل آلاف السنين ولايزال ساريا إلى يومنا في عديد أقطار العالم. وفي سياق عمليات التطور الاقتصادي والاجتماعي تطورت كذلك الأفكار والتصورات في إطار نزوع الإنسان المستمر إلى العدالة. وتراكمت المعارف البشرية السياسية والحقوقية ونماء تيار واسع على امتداد الكون يبحث عن مخارج للتخفيف من وطأة البؤس عن كاهل الأجيال المتعاقبة وظهرت مدارس فكرية وسياسية كثيرة منها المدرسة الاشتراكية التي استلهمتها التجربة الكوبية والتي مكنتها من الاستفادة منها بشكل إيجابي؛ حيث بدأت بنزع الملكيات الكبرى وإعادتها إلى الملكية العامة كخطوة أولى وذلك بعد انتصار الثورة بقيادة فيدل كاسترو، التف حولها الشعب بهذه الإجراءات الحاسمة.
تبقى هذه التجربة ملهمة لتلك البلدان التي تصرف المليارات على الأجهزة المختلفة لحماية قصور الأثرياء ورساميلهم بينما تعيش شعوبها في لجة الفقر والحرمان. وقد شكلت حدثًا مهمًا في حياة الشعب الكوبي وعلى صعيد القارة اللاتينية كلها التي اعتبرتها الإمبراطورية الأمريكية على الدوام حديقتها الخلفية وتحولت إلى شوكة في حلق تلك الإمبراطورية العدوانية التي لا ترحم، والتي استخدمت ضدها كل أساليب وأشكال الحصار والتهديد، لكن ذلك لم يمنع هذا الشعب العظيم وقيادته المؤمنة بحقها في الحياة الكريمة والسيادة من تحديها من على بعد أميال، بينما يرضخ لها الكثير من قادة و شعوب العالم على امتداد العالم بمجرد التلويح بأبسط الإجراءات العقابية.
إن إرادة الشعوب أقوى من ترسانات الأسلحة النووية والأساطيل والجيوش المهاجرة لجلب المال وفرض الاستغلال والعبودية بالإرهاب. والنموذج الكوبي أكد إمكانية انتصار الشعوب الفقيرة متى ما توفرت الإرادة السياسية والوطنية.
وتبقى التجربة البشرية مليئة بالعبر والدروس المفيدة. أشرنا إلى المثال الكوبي حتى نشيع حالة من التفاؤل التي تحتاجها أمتنا العربية في هذه الظروف ولدحض الآراء والأفكار الانهزامية التي تنخر عقل وجسد أمتنا وتثبط عزيمتها في مواجهة عمليات النهب لثرواتها وسلب إرادتها وشل فعاليتها بحجج أسقطتها التجارب التاريخية الواحدة تلو الأخرى.