يبدو أنَّ الديموقراطية بدأت تَفقُدُ شعبيتها وبريقها في جميع أنحاء العالم. على مدى العقدَين الفائتَين، وَثّقَ مُتَتَبِّعو ومناصرو الديموقراطية والحرية السياسية، مثل “فريدوم هاوس” (Freedom House) في واشنطن، التآكلَ المُطَّرِد في كمية ونوعية الحكم الديموقراطي والحرية في العالم، حيث وَصفَ البعضُ الوضعَ بأنه ركودٌ ديموقراطيٌّ مُتزايد.
لكنَّ شيئًا آخرَ يحدثُ جنبًا إلى جنبٍ مع هذا النمط، وهو اتجاهٌ ناشئٌ لا يقلُّ إثارةً للقلق: نظرةُ عامةِ الناس إلى الديموقراطية تتغيَّر. في العديد من البلدان، يتضاءلُ الرضا عن أداءِ الديموقراطية. وفي بلدانٍ أخرى، تنظرُ أعدادٌ كبيرة إليها على أنها نظامٌ أقل فعالية وأقل جاذبية.
وهذا هو على وَجهِ التحديد التحوُّلُ في الرأي الذي تَوَدُّ الأنظمة الاستبدادية مثل تلك الموجودة في روسيا والصين أن تراهُ يترسَّخُ في الغربِ الديموقراطي. لقد حاولت موسكو وبكين التشكيكَ في الديموقراطية، حيث أثارتا الانقسامات التي هزّت أُسُسَ الديموقراطيات التي كانت مستقرّة ذات يوم. في الوقت نفسه، حاولتا إقناعَ الديموقراطيات الناشئة بأنَّ النموذجَ الاستبدادي أكثر جدارةً بالثقة وأكثر مُلاءَمةً لتحسين مستويات المعيشة.
وهذا الاتِّجاهُ مُثيرٌ للقلقِ بشكلٍ خاص لأنّهُ إذا لم يُنظَر إلى الديموقراطية الليبرالية بأنها مرغوبة، فإنَّ الرغبةَ والإرادة في الدفاعِ عنها والحافزَ لعَكسِ اتجاهِ التآكلِ الديموقراطي حيثما حدث سوفَ تضعف، وذلك في وقتٍ تتعرَّضُ الديموقراطية لضغوطٍ في العديد من الأماكن.
أظهرَ استطلاعٌ للرأي أجراه مركز “بيو” (Pew) الأميركي للأبحاثِ أخيرًا في اثنتي عشرة دولة ديموقراطية –كندا، فرنسا، ألمانيا، اليونان، إيطاليا، اليابان، هولندا، كوريا الجنوبية، إسبانيا، السويد، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة– انخفاضًا حادًا في الرضا عن الطريقة التي تعملُ بها الديموقراطية.
في العام 2017، عندما بدأ مركزُ “بيو” قياسَ الرضا عن حالةِ الديموقراطية في تلك البلدان، كانت وجهاتُ النظرِ مُنقَسِمةً بالتساوي. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، انخفضت نسبة أولئك الذين عبّروا عن رضاهم، قبلَ أن يَنعَكِسَ الاتجاهُ لفترةٍ وجيزة في العام 2021. والآن، في أحدثِ استطلاعٍ، قالَ 36% فقط إنَّهم راضون عن الطريقة التي تعمَلُ بها الديموقراطية في بلادهم، مُقارنةً بـ64% الذين هم غير راضين.
وفي البلدان ذات الاقتصادات النامية، يُصبِحُ الوَضعُ أكثر إثارةً للقلق، لأنَّ الأمرَ لا يَقتَصِرُ على تشغيلِ الأنظمة الديموقراطية الفردية فقط، بل وأيضًا على تفوُّقِ الديموقراطية على البدائل. تقومُ جامعة “فاندربيلت” (Vanderbilt) في ولايةِ تينيسي الأميركية بمَسحِ المواقف تجاه الديموقراطية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي كل عامَين منذُ العام 2004. وقد أكّدَ التقريرُ الأخير، الذي استندَ إلى مقابلاتٍ مع أكثرِ من 41 ألف شخص في 26 دولة، الأسبابَ التي تدعو إلى القلق.
ظلَّ دَعمُ الديموقراطية ثابتًا عند 68% في الفترة من 2004 إلى 2014. وبحلولِ العام 2016، انخفضَ الرأيُ القائلُ بأنَّ الديموقراطية هي أفضلُ شكلٍ من أشكال الحكم إلى 58% فقط، وبقيَ على حالهِ منذُ ذلك الحين، بزيادةِ أو نُقصانِ نقطةٍ مئوية.
ليسَ من الصعبِ أن نرى لماذا تَفقُدُ المنطقة الثقة في الديموقراطية. لقد أدّى الفسادُ وسوءُ الإدارةِ والاقتتالُ السياسي إلى خلقِ ظروفٍ فوضوية في العديد من البلدان.
لكن، لا يوجَدُ سببٌ للاعتقادِ بأنَّ النظامَ البديلَ سيَعمَلُ بشكلٍ أفضل. إحدى سماتِ الديموقراطيات، حتى المُعيبة منها، التي تجعلُها مُتَفَوِّقة على البدائل، هي أنها تجعلُ من المُمكِنِ التخلُّصَ من الحكومات السيِّئة. وإثباتًا لذلك، لا ينبغي لأميركا اللاتينية أن تَنظُرَ إلى أبعدِ من الكارثة التي حَلَّت بالفنزويليين عندما فقدوا ديموقراطيتهم ومعها القدرة على الإطاحة بحكومةٍ كارثيةٍ راسخةٍ منذ ما يقرب من ربعِ قرن.
مع ذلك، تظلُّ الشكاوى مشروعة. قال ثُلثا المشاركين في استطلاع جامعة “فاندربيلت” لأميركا اللاتينية إنهم لا يثقون برئيس بلادهم أو رئيس حكومتهم أو المجلس التشريعي أو المحاكم في بلادهم.
وفي مختلف أنحاء العالم لا يزالُ الدَعمُ للديموقراطية قويًا. لقد وَجَدَ استطلاعٌ أجراه مركز “بيو” في العام 2023 أنَّ متوسِّطَ 77% من الناس في 24 دولة –مزيجٌ من الإقتصادات الثرية ومتوسّطة الدخل والناشئة– يرونَ أنَّ الديموقراطيةَ التمثيلية هي أفضلُ نظام. ولكن على الرُغمِ من أنَّ ذلك ظلَّ مُستَقرًّا منذ استطلاع العام 2017، إلّا أنَّ هناكَ استياءً مُتزايدًا من الطريقة التي تعمَلُ بها الديموقراطية، وأعربت أقلياتٌ صغيرة ولكن مهمّة عن تفضيلها للحُكمِ من قبل قادةٍ أقوياء بدونِ تدخُّلٍ من الهيئات التشريعية والمحاكم. وفي العديد من البلدان، كان هذا هو الخيار المُفَضّل. وحتى الحكم العسكري حظيَ بدعمٍ كبير.
ربما ليس من المُستَغرَبِ أن يَشعُرَ مواطنو البلدان الفقيرة، التي تتمتّعُ بمؤسّساتٍ أحدث سنًّا وضماناتٍ أضعف ضدّ الفساد وإساءةِ استخدامِ السلطة، بخيبةِ أملٍ إزاءِ النظام، ولبنان هنا أفضل مثال.
لكن الديموقراطيات الغنية والأقدم هي الأخرى تتعرّضُ أيضًا لضرباتٍ من قبلِ بعضِ القوى نفسها التي تخلقُ الفوضى الديموقراطية، بما فيها التضليل وأشكال التدخّل الأخرى من قبل الأنظمة الاستبدادية؛ وبيئة وسائل التواصل الاجتماعي التي تُشجّعُ على الاستقطاب ووجهات النظر المتطرفة؛ والآثار اللاحقة لجائحة كوفيد-19، والأزمة المالية العالمية، وزيادة تدفّقات اللاجئين.
في الولايات المتحدة، يعمَلُ الكونغرس والمحاكم على تعزيزِ السياسات التي تتعارَضُ مع الإرادة الشعبية على جبهاتٍ مُتعدّدة، من السيطرة على الأسلحة المنتشرة بين أيدي الشعب إلى حقوقِ الإجهاض.
وداخل الكونغرس أيضًا، من الممكن أن تتمَّ عرقلةُ التدابير التي تدعمها غالبية الأعضاء من قِبَل فصيلٍ صغيرٍ من المشرِّعين المُنتَمين إلى اليمين المتطرّف، كما هي الحال مع التأخير لمدة ستة أشهر في الموافقة على المساعدات لأوكرانيا.
ثمَّ هناكَ المشهدُ الغريبُ المُتَمَثّلُ في قيامِ المُشَرِّعين بعرقلةِ السياساتِ التي يدعمونها، كما حدثَ عندما رفضَ الجمهوريون في الكونغرس إقرارَ مشروعِ قانونٍ لمُراقبةِ الحدود والهجرة استجابَ لمطالبهم، لأنه كانَ سيَحرُمُ الرئيس السابق دونالد ترامب، المرشّح الجمهوري للرئاسة، من أقوى حججه ضد منافسه الرئيس جو بايدن.
الآن، مع اقترابِ موعدِ الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد أقل من أربعة أشهر، يُراقبُ الناخبون الاختيار المعروض عليهم بخوفٍ لا يخفونه: من ناحية، هناك ترامب، الذي أظهرَ ميلًا للاستبداد، ورفضَ قبولَ نتائج الانتخابات الأخيرة، وتعهّدَ باستخدام ولايته الثانية للانتقام من منتقديه ومعارضيه؛ ومن ناحية أخرى، هناكَ بايدن، الذي ألقى أداؤه الأخير في المناظرة الرئاسية بظلالٍ من الشكِّ على قدرته على الحكم على مدى السنوات الأربع المقبلة.
في فرنسا، أسفرت الديموقراطية عن نتائج فوضوية في ظلِّ الرئيس إيمانويل ماكرون الذي لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة. وفي المملكة المتحدة، انتهى الحُكمُ الفوضوي لحزب المحافظين بأسوَإِ أداءٍ للحزب على الإطلاق في انتخابات الأسبوع الفائت، لكنَّ الفوزَ الساحق لحزب العمال – 412 مقعدًا من أصل 650 – جاءَ على خلفيةِ 34% فقط من الأصوات.
من المؤكّدِ أنَّ هذه التطوّرات تُثيرُ القلق. وإذا اقترن ذلك بالانحدارِ المُستَمرِّ للحكم الديموقراطي في مختلف أنحاء العالم، فإنه يشيرُ إلى احتمالِ حدوثِ المزيد من المشاكل في المستقبل. مع ذلك، فإنَّ الأسبابَ التي تجعلُ العديدَ من المواطنين غير راضين عن الديموقراطية في بلادهم لا تعني أنهم جميعًا قد تخلّوا عن هذا النظام. هذا يعني أنهم يعترفون بالحقيقة التي لا مفرَّ منها وهي أنه يُمكنُه ويجب أن يعملَ بشكلٍ أفضل. ومن الواضح أنَّ هناكَ عملًا يتعيّنُ القيام به لتحسين الديموقراطية في جميع أنحاء العالم. ومع بَذلِ التكنولوجيات الجديدة والجهاتِ الفاعلة الاستبدادية الجُهد والمحاولات لتقويضها، فإنَّ هذا العملَ لن يكونَ مهمّةً سهلة وبسيطة.